أينشتـاين رجـل الدولـة

-A A +A
أحد, 2016-12-25 20:26

تمّ تحليل أحلام ألبرت أينشتاين، وتفحُّص حياته العاطفيّة، والتدقيق في رسائله. لقد تمّ تشريح دماغه، ونقله إلى مسافة 5,000 كيلومتر عبر الولايات المتّحدة. وبطريقة ما، كُتبت له النجاة من ذلك كله.

في كتاب «أينشتاين وسياسات القرن العشرين» Einstein and Twentieth-Century Politics، يدور الجدل مرّة أخرى حول سياسة الفيزيائي ومبادئه. يُعَدّ أينشتاين مفكّرًا عالميًّا؛ فهو العالِم الذي يمتلك رؤى اجتماعيّة مهمّة، فضلًا عن تمتعه بشخصيّة كاريزمية قوية. يبرز ريتشارد كروكات المواقف التي تألّق فيها أينشتاين، وتجسّدت فيها النزاعات الكبرى في العالم آنذاك: السلام، والصهيونية وإسرائيل، والقنبلة الذرية وسباق التسلّح، والحكومة العالميّة. وممّا دَوَّنه كروكات، الباحث البريطاني في السياسة الخارجية الأمريكية والعلاقات الدولية في منتصف القرن العشرين: "إنّ الناظر في حياة أينشتاين وأفكاره ليرى أنّه يحمل العالَم الذي يعيش فيه على كتفيه، وليس في ذهنه فحسب".

كانت أولى غزوات أينشتاين المشهودة في السياسة في عام 1914. لقد كان جريئًا منذ البداية، فقد كان في الـ35 من عمره يدرِّس في جامعة برلين، حين وقَّع ـ إلى جانب ثلاثة أشخاص فقط ـ على بيان ضدّ الحرب العالمية الأولى. وكان ذلك لمواجهة بيان آخر، وَقَّعه 93 من أقرانه؛ للدفاع عن حرب ألمانيا "العادلة". ودون أن يصرِّح بذلك علنًا، كان أينشتاين يأمل أن تخسر ألمانيا الإمبريالية الحرب، وأن تقوم من تحت الرماد حكومة اشتراكية ديمقراطية.

قبل الحرب، كان الرجل بالكاد معروفًا خارج عالَم الفيزياء، حتى شملته الشهرة سنة 1919، عندما أَكَّد العالِم التجريبي آرثر إدنجتون النظرية النسبية العامة. بعد ذلك لم يعد أنشتاين «اليهودي» آدميًّا صرفًا، الأمر الذي أثار ضده ـ بشكل مطّرد ـ ألمانيا المعادية للساميّة. فقد هاجمه المناهِضون للنسبية، ممن يملكون أجندة معادية لليهود. ولهذا، ولهذا الأمر فقط، جاء هجومه المضاد عنيفًا، في مقال صحفي له، جلب عليه مزيدًا من الهجمات. وقد عَلِم أنّ المناوئين له باستطاعتهم التحريض عليه، وأنّه في حاجة إلى حماية خصوصيته، وأنّ وُلُوجه المعترك السياسي يمكن أن يعطّل مسيرته العلمية. ومنذ ذلك الحين، أَضحَى يدلي بالبيانات حول القضايا السياسية والأخلاقية التي تهدف إلى إبقائه في إطار السياسة غير المثيرة للجدل. أحيطت كلّ هذه الأبعاد وصيغت بجزالة في كتاب «أينشتاين وسياسات القرن العشرين».

بعد الحرب العالمية الأولى، تأسّست عصبة الأمم؛ لدفع عمليّة السلام. وكانت لأينشتاين علاقة متذبذبة معها، كما هو شأن العديد من معاصريه الليبراليين. لقد كانوا يخشون أن تحبِط القوّة العسكرية للأمم هدفَهم السلمي. لقد صنع الدمار الذي خلّفته الحرب من الكثير مسالمين خالصين. وفي سنة 1933، وبعد مغادرته ألمانيا إلى الولايات المتّحدة تحت تهديد النازية، راجع أينشتاين آراءه. انتابته ـ رغمًا عنه ـ براجماتية غاضبة، جعلته يتساءل: ما الخير المرتجَى من دعمنا للسلام، إذا فقدنا الحرية؟ أصبحت القوّة العسكرية المتحالفة – في نظره - نعمة. وعلى هذا المنوال، كان تطوّره الفكري في العديد من القضايا، لتُكال له انتقادات في السرّ من أصدقائه المفكّرين اليساريين، ومن خصومه في العلن، لا سيما أولئك المنتمين إلى الحكومة الأمريكية. لقد وُصِم بصفات مختلفة من قبيل: المتهور، والمنافق، والأحمق، والموالي للسوفْيِتّ.

كان ثمة قرار واحد ـ وهو التَرويج لصنع القنبلة الذرية ـ ندم عليه حتّى مماته. لقد كتب ثلاث رسائل للرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت؛ أيدت الاثنتان الأوليان منهما القنبلة؛ وحذّرت الثالثة بطريقة غير مباشرة من استخدامها. وقد شرح بعد الحرب العالية الثانية مبرِّره ـ المتمثل في أنّه لم يشتغل البتّة على القنبلة ـ لكنه عجز عن محو ما تَرَسَّخ لدى العامّة، من كونه المسؤول عنها. وكان آخِر ما استطاع فعله في النهاية هو الضغط بإلحاح؛ من أجل قيام حكومة أممية تتولّى التحكم في القوّة العسكريّة، وخاصةً في القنابل الذرية.

يَستخدِم كروكات بمهارة رسائل ومقالات حصل عليها من «الجناح الليبرالي للرأي العام الدولي» لأشخاصٍ، جميعهم ليسوا من العلماء؛ لتوضيح دقائق القضايا. ومن هؤلاء: الفيلسوفان برتراند راسل، وألبرت شفايتزر، والكُتّاب جورج برنارد شو، وتوماس مان، وإتش. جي. ويلز، والمهاتما غاندي، إضافة إلى إسهام شرفي من سيجموند فرويد، وجميعها توضِّح الفروق الدقيقة بين مواقفهم، ومواقف أينشتاين، وتعرض بعض التعقيدات الناجمة عن عالَم سريع التغيّر. وقد اتّفق هؤلاء ـ بشكل ما، أو بآخر ـ على هدف واحد؛ وهو حكومة عالمية تحدّ من قوّة الدولة القومية، وتوقف الحرب. أما التفاصيل، مثل دور الدولة، فكانت مثار جدل.

شَكَّل قلم كروكات البارع ومقاربته الثاقبة صورة جذّابة وموحية لأينشتاين "غير العالِم". فقد وظَّف مادة غزيرة في قصّة مقنعة. ومع ذلك، فلعلّ كروكات قد بالَغ في سعيه إلى إبراز "الخصال الفكرية والعاطفية" لأينشتاين، وهو في الأصل يزعم أنّ أينشتاين يفحص أيّ فكرة علمية من جميع الزوايا، لكنّه "قليلًا - إنْ لم يكن نادرًا - ما راجَع مبادئه السياسية"، لأنّها كانت بديهية بالنسبة له.

يداخلني الشك في أن يكون الأمر بذاك الوضوح؛ فكروكات نفسه يتحدث عن العديد من الحوادث، التي غَيَّر فيها أينشتاين مواقفه السياسية تغييرًا جذريًّا. يرى كروكات أنّ التحوّلات كانت تكتيكية، لكنّها ربما تكون قد تطلّبت تفكيرًا عميقًا ومراجعات. كانت قرارات أينشتان متسلسلة بصورة منطقية، ولم يكن ذلك العالِم التجريبي متحجر القلب الذي حاول كروكات توصيف شخصيته. وتُعَدّ حُجّة أينشتاين في رفضه ميكانيكا الكمّ ـ من منطلق أنّ الإله "لا يلعب النرد" ـ متعلّقة بالحدس، أكثر من كونها مبدأ علميًّا راسخًا.

ورغم ذلك، فإنّ كتاب «أينشتاين وسياسات القرن العشرين» يحقق ما وعد به كروكات، وهو تقديمه صورة لعالَم أينشتاين وعقله، منقولة بريشة متبصّرة، تبرِز قضايا سياسية وفلسفية معقّدة، بما يكفي لجَعْلها تعيش لتشهد العديد من التأويلات الأخرى.