وثائق : كيف ولماذا قتل أول أمين عام لمنظمة الوحدة الإفريقية؟

-A A +A
سبت, 2014-08-09 16:50

في ضحى 1 مارس 1977 مات أول أمين عام لمنظمة الوحدة الإفريقية: المثقف الغيني الكبير جالو تلي. كانت الزنزانة رقم 52 في ثكنة بوارو بكوناكري شاهدة على فظاعة الجرم، حول جالو تلي إلى الزنزانة 52 أسبوعين فقط قبل موته التراجيدي.

وقال الناجون من تلك الزنزانات إن جالو تلي كان يقول لهم باستمرار: "تناسوا كل ما يتعلق بالدنيا، وصلوا كثيرا، وتوجهوا إلى الله بقلوب مخلصة". كان الجلادون قد رسموا على باب زنزانة جالو تلي الحرف D الذي يعني لدى السجانين: "غرفة بدون غذاء وبدون شراب". إنها نفس الغرف التي قبع فيها معتقلون آخرون تحت ذريعة "مؤامرة الفلان" وأخرجوا منها جثثا هامدة دفنت في مقبرة كابورو دون أدنى طقوس دينية، لتحرق أشياؤهم (من ملابس وراديوهات وأغلفة) غير بعيد من ذات المكان.

كان جالو تلي قد اعتقل قبل 7 أشهر مساء 18 يوليو 1976 بمنزله في العاصمة الغينية. وفي يوم 9 أغشت أذاع الراديو الرسمي "اعترافات" بصوت الرجل قال فيها انه "المسؤول الأول عن تدبير مؤامرة تستهدف النظام الحاكم". لم تكن تلك "الاعترافات" كافية بالنسبة للرئيس الغيني الأسبق شيخو توري الذي طلب من أجهزة الأمن إعادة التحقيق مع جالو تلي الذي وصفه، خلال مهرجان شعبي، بأنه "لا يعترف بالجميل لمن صنعه ومنحه كل الامتيازات".

وهكذا استخدمت "اللجنة الثورية" بقيادة اسماعيل توري كل الوسائل اللازمة لانتزاع "اعترافات جديدة"، بما في ذلك اعتقال زوجته وأطفاله والتأكيد له أن الجلادين سيعذبونهم إن هو لم يعترف. وفي يوم 22 أغشت أُحضر المثقف الإفريقي جالو تلي إلى قاعة بها ما يربو على 1000 مدعو فقرأ "اعترافاته" الجديدة التي قال فيها انه "اكتـُـتب من طرف الـ سي إي آ عن طريق هانري كيسينجر كي يدبر انقلابا في غينيا ويرأس حكومة منحازة لمصالح الغرب بعد تصفية الرئيس شيخو توري ووضع حد للثورة الغينية".

وفي زنزانته، تبادل جالو تلي بعض الرسائل مع صديقه الحميم الرئيس شيخو توري الذي اتهمه في بعض الفقرات بـ"خائن الثورة المناهض لتطلعات الشعب"، فيما هنأه هو بـ"المكتسبات التي تحققت على المستويين الداخلي والخارجي"، موضحا أنه "بخصوص الاتهام فإن "الله يظل حسبه ووكيله". وبعد شهر من تلك المراسلات كان وقع الجوع والعطش والتعذيب قد حول جالو تلي إلى جسم نحيف مهترئ قبل أن ينهار نهائيا فتصعد روحه إلى بارئها.

ولد جالو تلي في بوريداكا بمنطقة فوتاجالون سنة 1925، وكان تلميذا مميزا في مدرسة مامو ومن ثم مدرسة كوناكري التي انتقل منها إلى مدرسة وليام بونتي لتكوين المعلمين في دكار. بعد ذلك تخرج بامتياز من المدرسة الوطنية الفرنسية لفرنسا ما وراء البحار ليصبح أحد أبرز القضاة في السينغال قبل أن يتم اختياره أمينا عاما للمجلس العام الأعلى لإفريقيا الغربية الفرنسية. وفي هذه المرحلة، وفي مدينة دكار بالذات، التقى لأول مرة بصديقه شيخو توري سنة 1957.

وبعد استفتاء 1958 اختار جالو تلي أن يعود إلى وطنه ليخدمه. وبما أن الرئيس شيخو توري يعرف أن له قدرات وكفاءات غير محدودة، بالإضافة إلى صداقتهما، اختاره ليفاوض العالم من أجل دخول غينيا في منظومة الأمم المتحدة. ورغم معارضة فرنسا فقد تمكن جالو تلي، بحنكته وذكائه ولباقته، من إقناع العالم بهذا المسعى فأصبحت غينيا بفضله عضوا في الهيئة الأممية.

وسرعان ما تفطن شيخو توري إلى أن جالو تلي أصبح شخصية كاريسيمية، محببا لدى الجماهير الغينية، جذابا للأنفس، ذا قدرة فائقة على الإقناع، يمتلك موهبة حسن الخطاب، رزينا وله أخلاق فريدة. فرمى به سفيرا في واشنطن بغية إبعاده، ومن ثم ممثلا دائما لدى الأمم المتحدة.

وبعد أشهر قليلة فرض جالو تلي نفسه كشخصية قوية فاعلة في المجموعة الإفريقية الآسيوية. وأجمع الأفارقة سنة 1963 على انتخابه أمينا عاما لمنظمة الوحدة الإفريقية إبان إنشائها. وتمكن جالو تلي من إقناع الأفارقة بإعادة انتخابه لمأموريتين انتهتا سنة 1972 تحت ضغط شيخو توري الذي قام بحملة كبيرة لدى الرؤساء الأفارقة كي يمنعوه من مأمورية ثالثة.

ورغم النصائح التي أسدى له الكثيرون بعدم المخاطرة بالعودة إلى كوناكري ، فقد عاد مع أسرته إلى بلاده ففاجأه شيخو توري بتعيينه وزيرا للعدل.

كانت سجية جالو تلي، التي هي خلاصة صدقه وتجربته ونزاهته الفكرية، تدفعه أحيانا إلى الكثير من الصراحة (خلال اجتماعات مجلس الوزراء).

وعلى حين غرة، اعتقل جالو تلي دون سبب مقنع سنة 1976 ومات في السجن سنة 1977 ولم يعلم أحد (باستثناء النظام) بموته إلا في مارس 1984 عندما مات شيخو توري.

وبعد انتهاء حكم شيخو توري بدأ الغينيون (حكومات وفاعلين) في التفكير في كيفية يعيدون بها الاعتبار لروح المثقف جالو تلي، فأطلقوا اسمه على أحد أكبر شوارع كوناكري، ونشروا أبحاثا وكتب عن حياته، وأنشئت هيئة ثقافية باسمه، وأطلق اسمه على إحدى أكبر الجوائز الوطنية. إلا أن الغائب الأكبر بشأن المثقف الإفريقي كان إفريقيا التي لم تقدم أي فعل يخلد ذكرى أول أمين عام لاتحادها.