حوار مع حزيران المحتال!

-A A +A
خميس, 2017-06-08 15:11
بقلم/ م. محفوظ بن أحمد

حزيران يا صاحب الوجه الحزين والجبين المعفَّر أبدا بتربة الدم الرطبة؛

كيف استطعنا، بضعفنا ومكرنا وغشنا...، أن نخفي عنك نصف قرن، أن نوهمك بأن السنين الخمسين هي خمس ساعات فحسبُ، لم يتغير فيها سوى أثاث بيت القائد وواجهة الفرن...

 

أثاث القائد، يا سيدي، لم يعد كما كان: بدلات وأحذية خشنة ونياشين، ووثائق مزورة... لا، بات حسابات مصرفية وبطاقات VIP!

 

أما الفرن فقد توقف عن إشعال النار، لأن الوادي اقتُلع شجره، ونَسف الجفاف حطبَه وهشيمَه... بات الفرن يصنع خبزا مجوفا برأس وحيد، رغيفا ذا طرف واحد لا يصل الخباز إلى نهايته؛ قد لا ينتهي حتى تقوم الساعة! لأن طرفه الآخر لا وجود له... يوقد عليه بالآمال شديدة الاحتراق، ولكنها تزداد برودة إلى التجمد!

 

الخلاصة يا حزيران: إنك لن تستطيع، عد السنين؛ لن نخبرك بحصادها، ستعرف فقط أنها 50، وهذا مجرد رقم لا يعني شيئا، أما المرقوم فلن نخبرك به... لأنك لن تصدقنا، ستكذبنا ثم تلعننا ثم تيأس منا وتقول: "اتْفُ"!

 

لا، إنك لم تكتف بذلك، ستدون على شاشة أحزاننا رقما أكبر! أعرف! ستكسعنا برقم 100... برأس الجريمة وأصل البلاء... أنت توعدنا بحلول تشرين الثاني / نوفمبر لتشهر في وجوهنا المرهقة ذلك الرقم الأثيم المريع! 

 

مهلا، عَدِّ عن ذلك! فهو أكبر من موضوعنا وأوسع من طاقتنا.

*

إنك تظلمنا، تتهمنا، وأنت لا تعرف ما في الجُـرُبِ السوداء تحت الصومعة. فإنك لا تعرف أننا نكَّبنا الطريق الذي توقعته؛ بل سلكنا طريق "النكبة"! لعلك لم تصدق ذلك، وظلْت تبحث عنا في مكان آخر على طريق السنين، على طريق التاريخ البعيد!

 

أنت مخطئ مرة أخرى، لم نسلك ذلك الطريق؛ اخترنا البقاء قريبا... في مكان ما، مكان متصحر ولكنه قريب يغطيه السراب لا يظهر فيه شيء بلونه الحقيقي، كل شيء فيه مقلوب...

*

حسنا. دع عنك عَذْلنا، لا تَلُمنا؛ وسنحدثك قليلا. حقا سنخبرك بموجز حوادث السنين، بموجز فقط؛ لأن الوقت ضيق، ولا يسع غيرَ الانتظار!

 

أولا: لم يسهر أحد بعدك؛ فقد نام اليهود ملء جفونهم بمجرد أن تعرفوا على "منازلهم" الجديدة في القدس وسيناء والضفة وغزة والجولان. لم يكن بهم إلا قليل من التعب والضوضاء، بسبب نحيب السكان العرب الذين أسْأرَهم القَتلُ هنا وهناك، وأنين أسرى جيوش العرب...

 

أما نحن فكنا نياما قبلهم، ولم ينقطع نومنا إلا ريثما نسمع بيانات النصر؛ فعدنا إلى مضاجعنا ولم نستيقظ... نومنا ثقيل، رغم الكوابيس، وأنت يا حزيران ـ بالمناسبة ـ فشلتَ في إيقاظنا، لم تَسْطِعْه!

 

عذرا! شعرنا بالانزعاج قليلا قبل أن يرجع قائدُ قادَتِنا ـ رحمه الله ـ ويقول إنه كان يمزح! لقد عاد إلى المائدة وأكمل عشاءه بنهم. فشعرنا بالنصر والسعادة، إلى حين فراقه الحزين، فأبكونا. صدقني، لقد ابتلت شوارع دكار بدموعنا، أما الأودية في المشرق والمغرب فسالت بقَدرها!

 

لما ذا لا تموت الأمة بدَلَه؛ أم هل ماتت بموته أم مات بموتها؟!

 

على كل حال نحن لم "ننتكس"، بل انتصرنا، انتصرنا عليك أنت يا حزيران، لأنا اكتشفنا المؤامرة، مؤامرة إسقاط قائدنا.

 

جميع المؤامرات بعد ذلك صرنا نكتشفها بسهولة، إنها تستهدف دائما قادتنا، تسعى بخسة إلى حرمان الأوطان من آلاء عظمتهم... لم يعد يخفى علينا بعد ذلك أن القائد، كل قائد عربي، أهم من الوطن. وأن دراسة سيرته أسمى من كل عِلم، وابتسامته في صورة ملونة توضع هنا وهناك، هي أمان من التخلف وحرز من أعداء الوطن المنتشرين في بيوتنا وأكواخنا وتحت ثيابنا...!

*

أعرف أنك تعرف أن باقي القادة استفادوا من رحيل الزعيم واستنبتوا لأنفسهم من شظايا مِنسأتِه قَوَادمَ للتحليق في الأعالي، فوق سماوات الأوطان التي ظلت تحترق بظلالهم، تظنها أشعة الشمس المخصبة! لكنهم تجاوزوه فعمهوا في طغيانهم وتماهوا مع فشلهم، حتى حسبناه كان ملاكا لا يخطئ، ودَعونا بالرحمة للحَجاج!

 

لتعلم يا حزيران أننا لسنا مثل دول تَعُق شعوبُها قادتَها، فتغيرهم؛ تتشدق بالأوطان والحرية والكرامة والعيش الهنيء... ولكن بربِّك ما فائدة الوطن، وما قيمة الحرية، وما معنى الكرامة، وما طعم العيش الهنيء المريء... بدون "ديكتاتور" متألَّهٍ، يَلدِه الحاكم أو تَبيضُه الدبابة؛ نعبده، ليحرم علينا تلك القيم ويُحِل لنا نواقضها، وتَحُـل به علينا أضدادُها؟!

 

لا تحسبن الخراب الذي حل ببلاد الحضارة والخير في العراق والشام وليبيا واليَمن... يُضعضِع عقيدتَنا في أن المصيبة ليست في الأوطان والشعوب في تلك البلاد العريقة؛ بل المصيبة هي فقط في فَقْد حكامها الذين بَنَوا القصور، وعمَّروا السجون، وأطعموا الشعوبَ المُسنِتةَ لذيذَ الشعارات، وعلموها التقاصرَ والجلوس، والتخافت وتنكيس الرؤوس...!

 

لا تظنن الوادي قد اتسع، ولا أن الأهرامات قد أضاءت من جديد، ولا أن أبا الهول فكر في عاقبة هزيمة الألمان، أو في انكسار اليابان... كلا، ولم تفْتِنه سنغافورة، ولم تطَّبيه تايوان، ولا حتى الصين نفسها... ما زال جالسا باسطا ذراعيه يحدق في الشمس، ويتوقع كل صباح نَعيَها في بيان تقدمي مؤثر ينشره من سرقوها مع مرسوم حِدادٍ عليها...!

*

لا تفرح يا حزيران كثيرا، فقد كانت "نكسة" بسيطة، ما لبثنا أن ثبَّتنا أركانها ومكَّنا مراسيَها في "حرب اكتوبر"، حينما دوى الانتصار الأكبر، فخُلقت من بركاته أوهامُ السلام وحقائق التسليم، ونِقم التطبيع...

 

لا تخف من "أكتوبر"، ولا تحسده؛ فوربك ما زاد على ذلك بشيء!

 

واذكر بمعيته مسيرتَنا المظفرة، المرقونة بالعبرية على بوابات "غزة وأريحا أولا"، تلك المسيرة التي قادنا بها "نصرُ أكتوبر المجيد" إلى خيمة الكيلومتر 101 وإلى كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة... و"وادي الذئاب"...!

 

وحده الوادي المقدس مُحتجِب عنا في سيناء لا ينظر إلينا، بل ينظر إلى التقتيل والتشريد والتهويد في القدس... يرنو إلى "فلسطين" التي اختفت من اللغة العربانية، ويوشك أن تحذف مع ما يجري حذفه الآن من دفاترنا المصْفرَّة...

 

"الحذف" يا حزيران ـ بالمناسبة ـ أصبح صناعة عربية مدهشة، نفاخر بها صناعات تقنية "النانو": إذا أعجزك أمر فاحذفه من منهاجك، إذا هزمك الأعداء فاحذف كلمة "الهزيمة" من مناهجك، إذا ظلمك باغٍ في الأرض فامْح كلمة "الظلم" من كتابك، إذا استقبَحَك عدوك فاحذف نفسَك... وهكذا تنتصر!!

 

ثم... اسمع: فلسطين ليست أرضنا، بل أرض "التطهير" اليهودي، وسيناء أرض "السلام" (يحظر فيها أي سلاح لا يوجهه المصري بنفسه لنفسه)، والجولان أرض السكون الأبدي ومنبع نمير ماء المستوطنات، وغزة سجن للتعذيب، والضفة سوق لصرف الشيكل...

هل رضيت يا حزيران؟!

*

لا تظن أن جيوشنا الجرارة لانَتْ لها قناة أو طاش لها سهم. فلقد برعت في الانقلابات العسكرية، وشاركت في كل الاحتفالات الرسمية، وأدت التحية للقائد الأعلى ولضيوف جلالته وسموه وفخامته... ويعلم الله كم أدرت من الوظائف المُجزية في مصانع الأعداء الفضلاء!

 

هل تستخف ـ يا هذا ـ بكل إنجازات نصف قرن من البناء العربي على طريق الرفاهية والوحدة العربية الشاملة من الخليج إلى المحيط، ومن المحيط إلى الخليج...؟!

*

لا تتذاكى يا حزيران أو تتخابث، فتقول: ما بال هذا "الإرهاب" المستشري باسمكم... وكيف أكمل طوق الدمار والبؤس عليكم؟!

 

أنت واهم... هذا الإرهاب المدمر، ليس سوى "بُرُوتُو"!

وكأنك تسأل متضايقا: وما هو "بروتو" بحق الجحيم؟!

 

"بروتو" مرض تسميه منظمة الصحة العالمية "دودة غينيا"، يعرفه الموريتانيون. هو جرثومة صغيرة "أنيقة" تستوطن بعض مصادر مياه الأوشال. ونتيجة للتغذية بالمياه الملوثة بها، والتي لا بديل عنها، تُسجَن وتُحاصَر في جسم الإنسان حتى يجبره مرضُها وفتكُها بصحته على إخراجها متفجرة من أي مكان من جسمه، من بين عينيه أو يديه أو رجليه...

 

كذلك الإرهاب هو حقا وباء مدمر، لكن أصله "بُرُوتو" المجتمعات التي يسكنها ويغذيها الاستبداد، ويعشش فيها الظلم والفساد...!

 *

لا تحزن، واعلم ـ هديت يا حزيرـ أنا رغم السنينن ما زلنا سائرين على المحجة السوداء التي تركتنا عليها، نهارها كليلها، نردد في يأس:

يا ليل الصَّب متى غَدُه * أقِيامُ الساعةِ مَوْعِدُه؟