أزمة الخليج الحالية: الأسباب والتداعيات / د. محمد الامين ولد الكتاب

-A A +A
أحد, 2017-07-02 16:17

إن الخلاف الحاد الذي نشب في الخامس من شهر يونيو 2017 بين دولة قطر من جهة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة أخرى، لا يبدو أنه مجرد عاصفة في فنجان عارضة، ولا هو سحابة صيف عابرة لا يعتد بها، بل هو حسب كل القرائن والمؤشرات، أزمة مستحكمة تكمن وراءها أسباب عميقة، ولها أبعاد متعددة، وقد تكون لها تداعيات كبيرة. وما قد يزيد من تفاقم هذه الأزمة واتساعها في المقبل من الأيام، كونها قد اندلعت ضمن سياق إقليمي ودولي مضطرب وبالغ التعقيد، يتسم على وجه الخصوص باحتدام الحرب الباردة بين الدولتين العظيمتين، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، ويتميز بصراع حاد بين قوى إقليمية متوسطة، لها طوحات وأجندات متصادمة لكن أهدافها في التحليل النهائي واحدة، ألا وهي إحكام قبضتها على المنطقة العربية قصد الهيمنة على أنظمتها واستتباع شعوبها سياسيا وإديولوجيا وعقديا، تمهيدا لاحتلالها عسكريا عندما تتوفر الظروف المتواتية لذلك، هذه القوى هي كما هو معلوم: إسرائيل وإيران وتركيا.

 

والصراعات الجارية حاليا بين هذه القوى الإقليمية المتنفذة، والتي ستفضي حتما إلى إعادة رسم خارطة المنطقة وإعادة هيكلة الكيانات الجيوسياسية المتواجدة بها على أسس عرقية ودينية وطائفية وسوسيوثقافية، هذه الصراعات تجري اليوم على مرأى ومسمع من البلدان العربية المتخاذلة التي لم تحرك ساكنا ولم تقم بالحد الأدنى مما يمكن القيام به من تدابير وخطوات لاستباق الأحداث والتأهب للأسوء والانخراط الفعلي في العملية المصيرية الجارية الآن على وتيرة متسارعة، قصد التأثير في سيرورة الأمور والإسهام بشكل أو بآخر في رسم ملامح المشهد الجيوسياسي الذي تعمل تلكم القوى على إقامته على أرض الواقع وفق مصالحها وطموحاتها.

 

والتساؤلات التي تطرح نفسها والحالة هذه هي:

 

ما هي الأسباب الحقيقية للأزمة التي نشبت بين دولة قطر وجاراتها؟ وما تأثيرها على دول مجلس التعاون الخليجي؟

ما تجليات وتداعيات اصطراع الدولتين العظيمتين على الساحة العربية؟

ماذا سوف يترتب على تغلغل القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط على الصعد السياسية والسوسيوثقافية والعقدية والجيوستراتيجية؟

 

ماذا يلزم الدول الخليجية بوجه خاص والبلدان العربية والإسلامية بوجه عام أن تقوم به لمواجهة المخاطر التي ستنجر عن سياسات الهيمنة التي تتبعها الدولتان العظيمتان حيال البلدان العربية والإسلامية، وما سوف تقود إليه استراتيجية التجزئة والشرذمة والتفتيت التي تنتهجها هاتان الدولتان لتحويل بلدان المنطقة إلى دويلات فاشلة مسلوبة الإرادة، عديمة السيادة لا تمتلك قرارها ولا تتحكم في مصائرها؟

 

وبعبارة أخرى ما هي الاستراتيجية الملائمة التي ينبغي أن تتبعها دول الخليج بوجه خاص على المديين القصير والمتوسط من أجل تخطي هذا النوع من الأزمات؟ وما السياسات التي يلزم للدول العربية عموما أن تتبناها من أجل مواجهة التحديات التي ستنجم عما سيلحق بالفضاءين العربي والإسلامي من تغيرات وتحولات ليس من السهل تصور مداها وتجلياتها وأبعادها؟

 

هذه التساؤلات وغيرها تقفز إلى ذهن كل من يتابع مجريات الأمور اليوم على مستوى الخليج والفضاء العربي والإسلامي، وعلى المشهد الدولي بشكل عام.

 

وتتطلب الأجوبة على هذه التساؤلات تحريا كبيرا واستبطانا عميقا للأحداث المتلاحقة، وتتطلب خاصة متسعا من الوقت غير متاح لنا في هذا المقام، ولذا سنكتفي بالتركيز على أهم هذه الأسئلة وأكثرها إلحاحا في نظرنا.

 

الأسباب الحقيقية للأزمة

 

لا أعتقد شخصيا أن سبب الأزمة التي نشبت بين دولة قطر وجاراتها تكمن فقط في كون قطر تدعم وتمول الفكر الإسلامي الجهادي المتشدد الذي ينتهج العنف والتطرف والإرهاب أسلوبا في فرض النموذج الذي يرتضيه بما يهدد سلامة وأمن واستقرار السعودية والإمارات والبحرين، ذلك أن قطر تشارك جاراتها المذكورة نفس المرجعية الإديولوجية المتمثلة أساسا في الفكر السلفي المحافظ، كما تتماهى معها في النظام السياسي القائم على الملكية الأثوقراطية المناهضة للتعددية السياسية والفكرية. وهذه معطيات لا مجال معها، منطقيا، أن تجازف قطر بتعريض أمن وسلامة واستقرار هذه المنظومة المتجانسة اجتماعيا والمتماهية سياسيا وعقديا وإديولوجيا للخطر، لأن ذلك ببساطة عمل انتحاري لن تقدم عليه هذه الدولة، بيد أنه لا مراء، والحق يقال، في أن النظام القطري دعم فعلا وسلح ومول وواكب الحركات الإسلامية الجهادية المتطرفة المصنفة في خانة الإرهاب، وذلك في كل من المغرب العربي والشرق الأوسط ومنطقة الساحل الإفريقي، ولكن لم يكن النظام القطري الوحيد في المنظومة الخليجية الذي سلك هذا الطريق، مع فارق أن من بين الحركات الجهادية التي مولتها قطر، خلافا لغيرها، من يُعتبر دعمها مقاومة جديرة بالتنويه ضد إسرائيل، في الوقت الذي تخاذلت كل الأنظمة العربية دون استثناء أمام التغول الإسرائيلي، ويتعلق الأمر بحركة حماس بغزة وحزب الله بلبنان، هذا رغم ما هو موجود عند العديد من الناس من تحفظ ضد حركة الإخوان المسلمين، لما توصف به من غموض الأهداف وروح المؤامرة، وضد حزب الله لما يؤخذ عليه من التصاق شديد بنظام الملالي الطائفي في إيران.

 

كل هذه الاعتبارات تَحمل على الاعتقاد أن ما نقمته الدول الخليجية الثلاثة من قطر ليس هو دعم الإرهاب على نحو يهدد سلامتها، بل ثمة أسباب أخرى لم يتم الإفصاح عنها لأنه لا يمكن الإفصاح عنها، ولعل من أهمها، سعي قطر إلى لعب دور ريادي إقليميا ودوليا أكبر من حجمها، ونزوعها إلى ممارسة استقلالية غير مسموح بها لبلد لا يكاد يرى بالعين المجردة على خارطة العالم، يضاف إلى هذا وذاك إشعاعها الإعلامي المتنامي الذي امتد إلى كل القارات، عبر قناة الجزيرة والعديد من وسائل التواصل والاتصال الناجعة الأخرى، وكذا مبادراتها الأحادية المتزايدة لحلحلة النزاعات الإقليمية واستقطاب الملتقيات والندوات الفكرية والحقوقية والجمعوية المتنوعة وذات الطابع الدولي، وذلك دون استئذان أو استشارة أو تنسيق مع أي من جيرانها.

 

ناهيك عن إيواء لفيف كبير من الخبراء والمثقفين والمفكرين والفقهاء من ذوي المشارب والمرجعيات المختلفة، وإعطائهم إمكانية بث آرائهم وطروحاتهم ونظرياتهم دون مراعاة مشاعر وهواجس جيرانها.

 

بيد أن من البواعث الحقيقية على قلق وانزعاج جيران دولة قطر المبررة هو التعامل الوثيق والتواصل الحميم بين قطر وإيران المعروف بسعيه الدؤوب إلى بسط نفوذه على منطقة الخليج بوجه خاص، وتوسيع هيمنته على الفضاء العربي بوجه عام. وما ينطبق على إيران ينطبق إلى حد ما على تركيا التي أقدمت قطر على منحها موطئ قدم في الخليج العربي من خلال إيواء قاعدة عسكرية تركية على أراضيها، ما يشكل خطورة مؤكدة على أمن الخليج وسلامته.

 

تجليات وتداعيات اصطراع أمريكا وروسيا في منطقة الشرق الأوسط

 

إن تجليات وتداعيات الصراع الروسي الأمريكي من أجل الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط وارية للعيان، وسوف تكون لها انعكاسات بالغة الخطورة على استمرار خارطة العالم العربي على ما كانت عليه عقب اتفاقية "سايكس بيكو" في القرن الماضي.

 

تجليات الصراع:

 

إن اشتداد حدة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا، وشراسة التنافس بينهما للسيطرة على مقدرات وثروات منطقة الشرق الأوسط وما تشمله من منافذ بحرية وبرية استراتيجية، بلغ ضراوة غير مسبوقة وقادهما إلى سباق محموم من أجل اكتساح أكبر مسافة ممكنة من شأنها أن تشكل مرتكزا للتواجد المادي المباشر للدولتين في المنطقة.

 

وتبعا لذلك قامت كل من الدولتين بتشكيل وتسليح ودعم وتوظيف كيانات ومليشيات موالية لهما بشكل مباشر أو غير مباشر بما في ذلك داعش وأخواتها.

 

وأقدمت كل منهما على إقامة عشرات القواعد العسكرية وإنشاء مناطق تابعة لها وخاضعة لسيطرتها وذلك مع الأسف بمباركة أو تغاض من الأنظمة العربية القائمة في المنطقة إلى حين، والآئلة إذا استمر الأمر على ما هو عليه إلى مصير ملوك الطوائف في الأندلس بالأمس.

 

تداعيات الصراع

 

إذا استمرت وتيرة الأحداث الجارية على ما هي عليه، وخاصة إذا رجحت كفة أمريكا وتوطد نفوذها بشكل كبير في المنطقة فإنها ستعمل جادة على تقطيع أوصالها وتقسيمها إلى كانتونات هزيلة لا تمتلك مقومات الدول، وذلك على أسس عرقية ودينية ومذهبية متوخية من وراء ذلك شرذمة وتفتيت وإضعاف العنصر العربي في كل المجال الجغرافي الخاضع لها.

 

وهذا هو مضمون استراتيجية الشرق الأوسط الجديد الذي سعت إدارة بوش جادة إلى إقامته بناء على توصيات عراب الكيان الصهيوني هنري كيسنجر، وذلك تنفيذا ولو بعد مدة للخطة الإسرائيلية الرامية إلى تمزيق سوريا والعراق وتحويلهما إلى دويلات صورية متصارعة لا تقدم ولا تؤخر، وهذه الخطة قد بلورتها المنظمة الصهيونية العالمية وعمدت بالفعل إلى نشرها في مجلتها "كوفونيم" (Kovonim) في عدد لها صدر بالقدس في 14 فبراير 1982.

 

وما استراتيجية الشرق الأوسط الجديد ومقاربة"الفوضى الخلاقة" إلا سعيا حثيثا إلى تجسيد الخطة الصهيونية المذكورة التي سيمثل تنفيذها إذا كتب له أن يتم، نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه وميلاد شرق أوسط آخر لا أحد يعرف ملامحه وماهيته.

 

وللتأكد من أهداف ونوايا الولايات المتحدة حيال الأمة العربية، يكفي قراءة مذكرات هيلاري كلينتون التي نشرت في كتاب بعنوان: "كلمة السر 360" الذي تم نشره مؤخرا.

 

ولا يبدو على أية حال أن الأنظمة العربية الحالية تدرك كامل الإدراك ما سوف ينجر عن تنفيذ هذه الخطة من مخاطر ومحن وويلات لكل الشعوب العربية.

 

مخاطر تغلغل القوى الإقليمية في المنطقة العربية

 

لقد أدى إسقاط نظام صدام حسين من طرف الأمريكان سنة 2003 واندلاع الانتفاضة الشعبية بسوريا سنة 2011 وما تلا ذلك في البلدين من قمع همجي واستفحال لظاهرة التعصب الطائفي ضد المجموعات السنية المتمثل تحديدا في التهميش والإقصاء، والمضايقات والعنف الحاقد والقتل على الهوية، أدى كل ذلك إلى ردة فعل للمجموعات السنية في البلدين تجسدت في بروز حركات مسلحة حظيت بتعاطف ودعم بعض الدول العربية وخاصة في منطقة الخليج.

 

لكن ما لبثت هذه الحركات مع الأسف أن تحولت إلى منظمات جهادية يتبنى بعضها سياسات العنف والتكفير والإرهاب، ولقد كانت تستفيد من تمويلات سخية من بعض الدول الخليجية، وكان من أكثر هذه التنظيمات عنفا وهمجية ووحشية ما عرف بداعش، التي نشرت الدمار والخراب وسفك الدماء. فكانت بمثابة وباء ماحق طال مفعوله العالم بأسره، فوفر هذا التنظيم الدموي المقيت الفرصة للولايات المتحدة وإسرائيل لتدمير المدن والمنشئات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية العربية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، كما أفسح المجال أمام الروس بالتواطؤ مع النظام السوري للحصول على موطئ قدم على الأراضي السورية والتواجد الفعلي من خلاله في منطقة الشرق الأوسط.

 

فضلا عن أنه وفر المبرر المطلوب لإيران لكي تبسط هيمنتها شبه الكاملة على كل من العراق وسوريا، وأن توطد نفوذها في لبنان وتتمدد نحو اليمن والبحرين وصولا إلى كل بلدان الخليج العربي بل والمغرب العربي.

 

ثم ما لبثت تركيا أن دخلت على الخط، وراحت تكثف الجهود للسيطرة هي الأخرى على مناطق نفوذ لها في سوريا وباقي بلدان المشرق العربي... هذه القوى الإقليمية تسعى اليوم جاهدة إلى أن تتقاسم النفوذ على الأراضي السورية والعراقية وصولا إلى لبنان وبلدان الخليج وباقي الدول العربية الأخرى، بتنسيق محكم مع الدولتين العظيمتين وبمباركة من إسرائيل التي لم يعد ينغص عيشها ويقلق راحتها اليوم سوى إمكانية مد جسر متصل بين إيران ولبنان مرورا بسوريا، فذلك هو الهاجس الأمني الوحيد الذي يقض مضجع الكيان الصهيوني وراعيه الأمريكي بعد أن أمن جانب البلدان العربية. ولولا تنامي إمكانيات وقدرات حزب الله بفضل الدعم الإيراني لكانت الأمور بالنسبة لإسرائيل سمنا على عسل كما يقال.

 

الاستراتيجة التي تستوجبها الأوضاع الراهنة من دول التعاون الخليجي ومن العالم العربي

 

إن الأخطار الحقيقية المحدقة بدول مجلس التعاون الخليجي المتمثلة في خبث وجشع الإدارة الأمريكية الحالية، وتربص الكيان الصهيوني الدائم والسياسة التوسعية للنظام الإيراني والأطماع التركية المتعاظمة في المنطقة، والمطامع الروسية الجديدة في الشرق الأوسط، كل هذه الأمور تستلزم من دول الخليج العربي أن تبادر إلى تخطي الأزمة التي ظهرت بين دولة قطر وكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، واحتوائها بالسرعة المستطاعة، والحيلولة بكل الوسائل المتاحة دون قيام نزاع مسلح بين دولتين شقيقتين خليجيتين، لما سيكون له من تأثير بالغ على المشهد الخليجي ولما سوف يستتبعه من تداعيات مدمرة ليس فقط على التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي الذي تم تحقيقه في دول التعاون الخليجي ولكن أيضا على السلم والاستقرار عربيا وإسلاميا ودوليا، فمن السهل إيقاد فتيل الحرب ولكن من الصعب إخماد أوارها بعد اشتعالها، كما أنه من المستحيل التنبؤ بتكاليفها البشرية والمادية والمعنوية.

 

ولا ريب أن التحديات التي يمثلها تكالب قوى أجنبية متعددة الجنسيات على المنطقة العربية تقتضي من العرب صحوة واستشعارا للخطر يقودانهم إلى تخطي الخلافات العقيمة وتوحيد الصفوف وحشد الموارد الهائلة التي حباهم الله بها من أجل تطوير الأمة العربية على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والمؤسسي من خلال الانتفاح الفكري والسياسي عبر تأمين الحريات الأساسية والنهوض بوضعية المرأة والإصلاح الجذري للمنظومة التربوية، بما يحرر العقول العربية وخاصة في منطقة الخليج من قبضة الفكر الدغمائي المتحجر المعادي للتحديث والتجديد والابتكار على الصعد كافة، والذي لا مراء في كونه يشكل الخلفية الإديولوجية للأصولية الجهادية المتغولة وما يتصل بها من تضييق وتزمت وإقصاء وتكفير.

 

فلا ريب أن كل منظومة تربوية تقوم على هذا النمط من التفكير هي خليقة بالوقوف حجر عثرة في وجه العقلانية والفكر النقدي والسعي إلى التجديد والابتكار والاختراع والتحديث والعصرنة في كل تجلياتها؛ وهي بالتالي معوق كبيرٌ لتطور العلوم الدقيقة ومختلف مظاهر التقانة والمعلوماتية والرقمنة التي تمهد لقيام مجتمع المعرفة. إلا أن الحفاظ على المعتقدات الدينية الصحيحة والقيم الروحية السامية والمثل العليا النبيلة والهوية الثقافية والذاتية الحضارية يلزم صيانتها والعض عليها بالنواجذ، تفاديا للتيه والضياع في عالم مأزوم ضعف فيه الحرص على القيم الرفيعة ونقص فيه التمسك بالأخلاق الفاضلة.

 

وبالعودة إلى التغيرات التي ستلحق بمنطقة الشرق الأوسط في ظل التطورات الجارية حاليا فإنه يجدر التنويه إلى أن الصراع القائم بين الدولتين العظيمتين والتنافس الجاري بين القوى الإقليمية المتوسطة مرده إلى محاولة التموقع في المنطقة بعد سقوط الرقة والموصل واضمحلال داعش واختفائها من المشهد.

 

ومن المفارقة المذهلة والمخجلة، أن العرب في المنطقة بدل أن يقفوا في وجه القوى الأجنبية الغازية يتبارون في مساعدتها على التمركز على أراضيهم وإقامة القواعد والمستعمرات عليها وهم بذلك قابلون وعن أنفسهم راضون!

هذه ممارسات وتصرفات ومواقف محزنة، وسوف يدفع العرب ثمنها غاليا في المدى القريب.

 

تقييم موقف موريتانيا حيال الأزمة

 

لا أريد أن أختم هذه المعالجة دون أن ألقي نظرة تقييمية سريعة على الموقف الذي اتخذته بلادنا من الخلاف الذي انفجر فجأة بين دولة قطر وكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين.

 

أود القول بهذا الصدد أن الشعب الموريتاني يقدر عاليا هذه الدول الخليجية الأربعة، ولا ولن ينسى ما وفرت للبلاد من دعم ومساعدات وإسناد على مختلف الصعد وما ساعدت في إنجازه من منشآت وبنى تحتية أسهمت في تطور البلاد وتقدمها، فللملكة العربية السعودية أياد بيضاء على موريتانيا من سني استقلالها الأولى إلى اليوم، وكذلك الأمر بالنسبة لدولة الإمارات المتحدة، فالقليل من الموريتانيين هو الذي لا يعرف زايد الخير وإنجازات دولة الإمارات في البلاد، لكن بالمقابل مَن من الموريتانيين يجهل ما أنجزته دولة قطر في موريتانيا وما قدمته لها من مساعدات سخية؟ وكيف يغييب عن أذهان الموريتانيين وجود العشرات والعشرات من الموظفين الذين يشغلون مختلف الوظائف (الشرطة، القضاة، الصحفيون، المعلمون، الأساتذة، والأساتذة الجامعيون...) في دولة قطر الشقيقة.

 

هذا على مستوى الشعب ومشاعره وعواطفه، إنما بالنسبة للدولة الموريتانية فإن لها إكراهات والتزامات وتعهدات تبني عليها مواقفها حيال القضايا الدولية، بما في ذلك الموقف الذي اتخذته حيال الأزمة التي نشبت بين دولة قطر وجاراتها الثلاثة.

 

لقد كان الأولى ربما أن تتريث السعودية والإمارات والبحرين قبل قطع العلاقات مع قطر، وأن تغلب الحلم والحكمة وأن تستنفد كل الطرق السلمية لحلحلة الأزمة قبل اللجوء إلى المواجهة.

 

لكن هذا ما لم تفعله، وقد تكون لها مبرراتها ومسوغاتها، ولا بد من القول هنا إنه كان أجدر وأحصف لدولة قطر هي الأخرى الإحجام عن ما قامت به من إسناد وتمويل لحركات تكفيرية تمارس العنف وتنشر الموت والخراب والدمار في الشرق الأوسط والمغرب العربي والساحل الإفريقي.

 

واعتراف قطر بهذا الخطأ واعتذارها عنه سوف يعتبر مؤشرا على حسن النية، وربما يمهد الطريق أمام رأب الصدع وجبر خواطر جاراتها المغاضبة، ويبقى الأمل قائما في أن تنتصر الحكمة وتتغلب مشاعر الأخوة على العتب والغضب وتعود المياه إلى مجاريها والأمور إلى نصابها، وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان أن لا تلاقيا.