حكومة الحد الأدنى! .. بقلم/ السعد بن عبد الله بن بيه*

-A A +A
سبت, 2014-08-23 13:27

تشكلت الحكومة الحالية في ظرف خاص جدا، داخليا (سياسيا وتنمويا) وخارجيا (اقليميا ودوليا)، فهي تأتى بعد انتخابات رئاسية، قاطعها طيف معتبر من المعارضة لأسباب معلومة، ليس أقلها معرفة هذه المعارضة لحجمها الحقيقي في صندوق الاقتراع، والذي لن يمكنها حتى من الولوج إلى شوط ثان أحرى الفوز بالانتخابات، كما أنها تميزت ولأول مرة بانتظام الشباب الموريتاني، خلف مرشح رئاسي واحد، بناء على وعود واضحة بتجديد الطبقة السياسية، والدفع بالشباب إلى مختلف مواقع الشأن العام (التنفيذية والتشريعة والإدارية ....)بل أكثر من ذلك تهيئتهم لقيادة السلطة مستقبلا ،وهي المشاركة التى ثمنها رئيس الجمهورية، حين توجه للشباب رجالا ونساء بالشكر على ما بذلوه، من وقتهم وجهدهم وفكرهم وامكاناتهم، من أجل هذا النجاح الباهر الذي راهنوا عليه، وسيلة لتصدرهم المشهد العام خدمة لتنمية وازدهار بلدهم ، لذا كان من الطبيعي جدا أن يتم تغيير الحكومة في أوضاع يسودها التفاؤل، في قيام كادر جديد قادر على استكمال مابدأه رئيس الجمهورية في مأموريته الأولى ،وقادرا كذلك على التعاطي وايجاد الحلول لمختلف المعضلات، التى لا تزال بحاجة إلى حلول غير تقليدية وناجحة ،وهي معضلات لا يدعي رئيس الجمهورية اختفاءها أو انعدامها مثل التعليم /والبنية التحتية/ والصحة...إلخ ،ومما زاد التفاؤل بحصول تغيير جذري على الفريق الحكومي،هو أولا :استنفاذ هذا الفريق فرصته ومخزونه النظرى والعملي المقترح، للارتقاء بالوضع العام وتنفيذ برنامج رئيس الجمهورية ؛ وثانيا: طبيعة الملفات المعقدة التى أقترحها رئيس الجمهورية وملفات أخرى تتصدر عنوان الإصلاح في المأمورية الثانية ،حيث تمثل ملفات:

 

1/ الوحدة الوطنية والوئام الاجتماعي .

 

2/ الأمن والإرهاب :خصوصا مواجهة نزعات الغلو والتطرف الفكرى والدينى وتهديد الأمن القومي،وبناء قدرات الدفاع.

 

3/ ملف تجديد الطبقة السياسية: الذي يمثل أحد تعبيراته إشراك الشباب في أعلى مستويات الإدارة التنفيذية(الحكومة)، وهو ما حدث في نطاق ضيق وفي حدود حقيبتين (الشؤون الإسلامية+ الشباب والرياضة)

 

4/ العمل على استكمال وتطوير المشاريع التنموية ، المتعلقة بالبنية التحتية ومشاريع استثمارية وخدمية ومجالات اجتماعية كالتعليم والتشغيل والصحة.......إلخ

 

5/ ملف تطوير الحياة السياسية، من خلال ترسيخ المكتسابات في المجال الحقوقي والديمقراطي، وترقية ملفات الحوار الوطنى، لبناء مساحات مشتركة من التوافق السياسي ومن التعاون تحتاجه عملية التنمية في البلد.

 

وهي ملفات حساسة تحتاج فريقا حكوميا جديدا، يمتلك من الكفاءة النظرية والعملية ومن المصداقية، ما يبعث الأمل على قدرته التجاوب مع رغبة الرئيس المعلنة في الاصلاح.

 

فما الذي حدث؟ مالذي يجعل النخب الوطنية والرأي العام الوطنى يتطلع لحكومة جديدة وتضم اغلبية شابة؟ مالذي جعل الشباب الموريتاني الذي بما فيه من المهندسين والدكاترة والخبراء في مختلف المجالات يغيبون عن الحكومة؟ما هو المطلوب من الشباب؟ هل ما حدث هو ضرب مباشر لتلك الآمال والتطلعات التى عقدها على مرحلة ما بعد الانتخابات؟ أم هل هو اعادة ثقة في المنهجيات والمقاربات واعادة انتاج لنفس الخطاب التقليدي، الذي يرى في الشباب قوة لن تضيف جديدا للشأن العام؟ – بالمناسبة دخل علينا نحن مجموعة تحضير لقاء الرئيس والشباب أحد بارونات القوة الإدارية والسياسية التقليدية، وطلب منا بحجة الواقعية ،عدم التفاؤل وعدم رفع سقف مطالب الاصلاح التنموى وأنه ليس بالامكان أبدع مما كان، طبعا سمع في ذلك اللقاء ما لا يسره، لكن أرجو ان لايكون مسرورا بالنهايات-!

 

قبل محاولة الاجابة والفهم لهذه التحفظات والاسئلة علينا أن نطلق فرضية ؛ وهي أن هذه الحكومة هي حكومة الحد الأدنى في كل شيء،وهو ما قد يفقدها القدرة على الاستمرارية إن فكرنا بشكل منهجى وجاد - وقليلا ما نفعل-.

 

أولا : بخصوص التطلع لحكومة جديدة ذي كفاءات شابة؛وفهم مدى الخيبة لدى الكثير من أوساط النخب والشباب المتتبع لمسلسل تشكيل الحكومة ،لا يمكن ولن يكون من الملائم، تفسيره بمثل تلك التفسيرات السطحية والتافهة، المنتشرة في اوساط التحليل- جدلا- الإعلامي ؛ والتى تقيس المواقف بمدى الفائدة او الاستفادة الشخصية؛بل نتاج قناعة أولا بأهمية الحكومة لقدرتها المفترضة التأثير في الأوضاع العامة، وترجمة توجهات الرئيس كراسم للسياسات العامة.

 

وإن كنا نفهم دستوريا وواقعيا، ماذا تعنيه "مؤسسة الحكومة" في النظام الموريتاني ،فهي في أحسن الأحوال مجرد جهاز مساعدة ،ولا تحوز صلاحيات محددة ومستقلة وواسعة حيال السياسة العامة،وندرك دستوريا وواقعيا "موقع رئيس الجمهورية"،ويمكن أن نستشف من أعمال الرئيس وحتى تصريحاته، مدى الحاجة للاعتداد بصلاحياته فيما يتعلق بمراقبة والتدخل في أسلوب العمل الحكومي،وهذا الحضور الرئاسي في مختلف التفاصيل هو ما يؤكد التحليل السائد والذي يرى بأن مستويات التحسن التى تشهدها بعض القطاعات والمجالات ، ربما يعود فيه الفضل "لتدخلية الرئيس"،خصوصا في المجال الاجتماعي :كالدعم الموجه للفئات الهشة من حيث الدخل (الفقراء) والتشغيل (الاكتتاب والتكوين والتعيين) ومجال البنية التحتية ،والمجال المالي ، والمجال الأمنى ،والمجال الدبلوماسي ، ومجال الحالة المدنية...إلخ، كل ذلك التحسن يعزى غالبا للإرادة الشخصية والإشراف المباشرللرئيس على هذه المجالات ،ورغم مشروعية النقد العام والنظرى الذي توجهه بعض الجهات بدواعي سياسية لهذه التدخلية ،إلاً أنها كانت محمودة العاقبة، في دولة جهازها البيروقراطى يعانى من التخلف في المبادرة وعدم عقلنة أسلوبه في العمل ،كما أننا عانينا من قبل من استقالة بعض صناع القرار، وتنازلهم عن صلاحياتهم لمواقع في الظل، وهو ما كان سيجعل بلدنا في خبر كان؛ ورغم وعينا بتلك المعطيات الدستورية والواقعية والتاريخية ،إلا أنه يمكن تصور بل لا مراء في مدى التحسن، الذي قد يضيفه تجديد الحكومة وضخها بدماء جديدة ،وخصوصا على مستوى منهجيات وأساليب العمل والأكثر عصرية ودينامية في التصور والانتاج، وهو المحرك الاساسي لتطلع وطموح تلك القوة الشابة للشراكة للقيام باعباء العمل الحكومى،وليس – يقينا- بدافع المنفعة الخاصة فقط .

 

ثانيا: في تقديري الخاص ما جعل الحكومة الجديدة تنغلق أمام المبادرة الشبابية، هو ثلاثة أمور؛

 

الأمرالأول: يتعلق بطبيعة السلطة السياسية مطلقًا، وهي طبيعة "محافظة" لا تميل لتجربة التغيير الجذري والحاشد من جهة، وطبيعتها "التقنية والتقليدية "من جهة أخرى، حيث يتم انتقاء الشخصيات العامة على أسس أكثر مباشرة واكثر تحديدا، وهو شيئ أقرب إلى فكرة التعارف الشخصي – هذا في كل السلط من حيث هي سلطة ، فهناك صعوبة ماثلة في فهم هذا الملمح المعقد في اختيار سلطة ما، لمنهج ومقاربة التغيير العمومي، ففيما يتعلق بالاشخاص أو البنى المؤسسية فاننا دائما ما نلحظ تغييرا متريثا –بالمعنى السلبي والبطئ-

 

الأمر الثانى : يتعلق بعملية اجهاض تقوم بها قوة خفية لكنها موجودة، لما ينتويه الرئيس من الانفتاح على الشباب ،فهي لا يمكن أن تتحكم في خطاب الرئيس، والذي هو خطاب مرتفع السقف في التبشير بالدفع بالشباب واشراك الشباب وتجديد الطبقة السياسية ، لكنها تمتلك من الامكانات والمواقع والعلائق بالسلطة، ما يمكنها من وضع العصي بالدالوب –كما يقال- ، ولذا لك أن تتخيل مدى "التدخلية" ومدى "الأبوية" التى حاولت هذه القوى، أن تفرضها وتواكب بها مرحلة تحضير الشباب للعب ادوار عامة إلى جانب الرئيس، إنها قوى تصر دوما على جعل أي بارقة أمل في التغيير "حملا كاذبا"، وهو ما ينطلي على اغلب الشباب وخصوصا الشباب غير المؤهل أصلا والذي يدخل بنية ركوب الفرص ليس إلاً.

 

الأمر الثالث : يتعلق بالشباب ذاته بقيمه في التفرق والأنانية ولا أحبذ قول أكثر من ذلك،حيث لم تستطع كل أطراف العملية الشبابية، إلا أن يصدق عليها ظن تلك القوى التقليدية، فلم يستطع هذا الشباب التجمع تحت مظلة واحدة، على الأقل في لحظة تحتاج ذلك وبشكل استراتيجي وملح، لم يستطع أن يقدم صفوته العلمية والعملية والأخلاقية، ويمارس قيمة التضحية بل إن الجميع قفز إلى المقود، لم يقدم الشباب نفسه كشريك وبطرح عقلانى، بل كتابع ذليل مفعول به لقوى معينة ،بل خجل أو خاف الشباب من المطالبة مباشرة في دمجه في أنساق ومؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والقضائية والاقتصادية ،وأشاع خطابا عاما أقرب للمثالية والغباء، عاجزا بشكل لا نظير له، عن تقديم تعريف وتفسير يناسبه ومتفق بشأنه، حول ما ذا يعنيه له تجديد الطبقة السياسية.

 

أخيرا مالذي ينبغي على الشباب أو ما هو المطلوب من الشباب؟

 

​إذا ضيعت أول كل أمر*** أبت أعجازه إلاً التواء​

 

أول ما يطالب به الشباب هو المراجعة الدائبة لمنهاجياتهم في العمل ، خصوصا فيما يتعلق بتعاطيهم في البيئة السياسية ،عليه أن يرتفع وأن يترفع –وعيا وقصدا- عن قواعد اللعبة السياسية الحالية ، التى تتخذ من الانتماءات الضيقة ومادون الوطنية ،وسائل للعمل السياسي ، أكرر انه على الشباب أن يجدد عقيدته الوطنية، وأن يصطف على أساس مبادئ كبرى تتعلق بالتسامح والتنوير الدينى ،وبالعمل الديمقراطي ،والإزدهار التنموى ،وأن يكون رائده في ذلك هو التعاون والتوحد والكفاءة والشجاعة وليس شيئا آخر،هذا ما نحتاجه بدل العراك الغرائزي من أجل مصالح فئوية أو جهوية أو اثنية وللأسف أحيانا عائلية وشخصية.

 

إنكم تمثلون واقعا عنيدا 70% من المجتمع ،وتمتلكون مستويات عالية من التكوين والمعرفة والوعي ،هذه المعطيات الاحصائية والمادية والمعنوية لا يمكن القفز عليها ،وستمكنكم عاجلا أو آجلا من التغلب على انسداد آفاق المستقبل الذي تحسونه، السبيل الذي لا محيد عنه هو زيادة وتيرة الانخراط في الشأن العام ،والعمل على التعبئة المتواصلة لمواردكم التنظيمية والمادية والمعنوية، بهذا ستمثلون طرفا هاما بل حاسما في معادلة الشأن الوطنى ،وستتغلبون على القوة التقليدية التى تختبر همتكم وصبركم اليوم،المشروع الشبابي يجب أن يكون واحدا، وأن يتم تقديمه بكل وضوح وعقلانية وواقعية للسلطة، على أساس من الشراكة والتعاون لحاجة بلدنا لكل أبنائه.

 

كذلك على الشباب أن لا يفقد الأمل في المستقبل – كما يراد به- وأن يتأكد من نبل مقاصده ،فليس عيبا - ولن يكون- التطلع للمقدمة لخدمة الشأن العام، بل إن ذلك الطموح يترجم مغادرة التفاهة التى يتردى فيها الشباب منذ عقود، على الشباب أن لا يقبل بتلك الأحزاب والذوات الاجتماعية ،كوسيط أو حاجبا بينه ورئيس الجمهورية ، عليه أن يتحدث مع الرئيس مباشرة، وأن يعبر له عن تطلعاته وأن يقترح الآليات والبرامج والاجراءات المناسبة والتى يراها ضرورية لتغيير واقعه العام،وأن لا يقبل أن يختزل أو تعزل شؤونه في مجلس أو وزارة واحدة ،فلقد كان من الحصافة رفض الشباب مناقشة توصيات خاصة به في اللقاء الفائت،منوها بأن قضايا المجتمع كله اقتصادية سياسية اجتماعية هي شأن يخص الشباب.

 

أخيرا على الشباب أن يطور من أسلوب عمله –بدل كرنفالات العمل التقليدية-، وأن يتذرع بالآليات الديمقراطية والمنهجيات السياسية العامة والمشروعة ،فله أن يطلب بواسطة ممثلين، اللقاء مع الرئيس وتبادل وجهات النظر –بدل العنعنة عن فلان عن فلان أن الرئيس قال- وأن يعقد الندوات لدراسة وتقييم العمل الحكومي ،وأن يستفيد من أجواء الإنفتاح ، لفرض رقابة خاصة على الفاعلين العموميين ،وهو أمر تتيحه القوانين ويشرعه الدستور ولا يحتاج موارد مادية،خصوصا في ظل الموت المؤسسي لمؤسسة البرلمان، وغياب دورها الحقيقي في المراقبة والتشريع بشكل مقنع ومقتدر،على الشباب أن يقوم بأدوار مدنية معنوية، لزيادة الضغط على الحكومة لتقدم نتائج ملموسة، خلال فترة سماح معينة في القضايا الأكثر حيوية مثل مجالات ترقية "نوعية الحياة" المتعلقة بخفض مستوى الأسعار،وزيادة الدخل ،وتحديث النقل،ونظافة الفضاء البيئي العام، والخدمة الصحية والتشغيل، والتعليم والسكن....إلخ مثلا.

 

تلك مجرد نماذج على مايمكن أن ينصرف إليه الشباب، من العمل الهام والجدي ،بدل اجترار الخيبة والتحسر على مكتسبات؛ لا ينالها إلا من يتقن علاقات القوة والنفوذ بالمعنى السياسي، وهو ما نطمح لوصول الشباب إليه.

 

 

* باحث بمجال العلوم السياسية مهتم بقضايا الشباب

[email protected]