شهد نضال لمعلمين وتحركهم لنيل حقوقهم محطات عديدة أختلفت من حيث الأليات وأتفقت من حيث الأهداف، إلا أن الجميع اكتفى بمحاولة طرح القضية وعرضها على الرأي العام فجائت جل نشاطاتهم للتعريف بلمعلمين ودورهم الريادي في المجتمع الموريتاني وتبيين ما مورس عليهم من حيف وتهكم وغبن وإقصاء، وهو ما يترجم التركيز على الجانب الإجتماعي المتمثل في النظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع لهذه الفئة المنتجة.
نظرة تاريخية
إرهاصات
حاول العديد من الأدباء الموريتانيين قبل الاستقلال واللذين ينحدرون من فئة لمعلمين أن يتطرقوا في اشعارهم الأدبية للظلم الذي وقع عليهم وعلى بني جلدتهم من لمعلمين لكن المجتمع أن ذاك كان يقبع في الجهل والتخلف، و الحكم فيه غابوي بشكل عام، لذلك لجأ هؤلاء المبدعون إلى "فن التضمين" فعندما يقول أحدهم مادحا خد بنت همام:
ألا لكنت اطفل عييـــــن من عيل لعرب ماني شين
امجار اسنين عشريــــــن ماهن صانع بحديــــــــــد
متأخر وأملان أمن الديــن وامنات ست ووليـــــــــــد
ول نملك منش عنزيــــــــن واحمار أنصكط مــيــدي
قدوم يوم ذاك أعليـــــــك فيه الكلت للنفس شيـد
يخديد صرتك ماترخيـــك أيد من عند أيد ليــــــــــد
فهو في الحقيقة صاحب قضية أكثر من مادح إمرأة، فالبيتين الأولين: برهان واضح أراد الأديب من خلالهما تبيين التفاوت الطبقي الحاصل بين الصانع التقليدي وأبناء طبقة العرب، والبيتين: الثالث والرابع يعكسان الحالة الاقتصادية والاجتماعية المزرية للصانع التقليدي والبيتين الأخيرين على غير ظاهرهما فيهما إنتفاضة ضمنية على واقع الحال المعاش أن ذاك.
وتتوالى السنين إلى أن وصلنا إلى نهاية السبعينات من القرن الماضي وتحديدا بعد أول انقلاب في البلاد - وهو الانقلاب الذي تزعمه الرائد المصطفى ولد السالك ضد الرئيس الراحل المختار ولد داداه- حيث كان لنا موعد مع أول منشور في قضية لمعلمين يرمى في الشوارع والمهرجانات، ويتضمن هذا المنشور تذمر أبناء لمعلمين من الظلم الذي يقع عليهم، إلا أنه سرعان ما انطفأت تلك الشمعة وخمد أبطالها نتيجة لحجم التحديات التي واجهتهم والتي لا قبل لهم بها، لأنهم في الحقيقة آن ذاك ناقصوا العدد لعدم انتشار الوعي بالقضية بين أوساط ابناء لمعلمين من جهة ومن جهة أخرى شكل لهم عدم وجود جو ديمقراطي في البلد يسمح بالحريات العامة لأصحاب القضايا العادلة حاجزا منيعا أمام تقدمهم في طرح قضيتهم.
حاول بعض الأساتذة والمعلمين بعد ذلك تشكيل إطار سري في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينات للفت الأنظار إلى قضية لمعلمين مواكبة منهم للتعددية في بداية التسعينات إلا أنهم سرعان ما احتوتهم القبيلة والجهة وانخرطوا في الأحزاب السياسية، ليقتصر العمل النضالي على ما يقدمه الصناع التقليديون بشكل فردي دفاعا منهم عن أنفسهم وصناعتهم التي يرونها تحتضر وتفنى أمام أعينهم وأمام مرأى ومسمع من القيمين على قطاع الصناعة التقليدية (الإدارة والوزارة الوصية).
عصر التنوير
بدأ هذا العصر مع خروج مدونة الصناعة التقليدية سنة 2004م التي اشرف على إنجازها لفيف من المثقفين من فئة لمعلمين الحالمين بغد مشرق أكثر إنصافا وعدلا، مع اختلافهم في الطرح وتحديد الأولويات،، فبعضهم مثلا يرى أن القضية اجتماعية يجب أن تعالج من حيث التطرق للنظرة الدونية وما قيل في حق لمعلمين من أساطير ودحض تلك الأوهام وتبيين أن الدين الإسلامي بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، في حين يرى آخرون أنه بمعالجة الجانب الاقتصادي والسياسي والإداري المتمثل في تمكين أبناء لمعلمين من الأطر وأصحاب الشهادات والكفاءات من الولوج إلى المراكز القيادية للدولة والوظائف الإدارية المختلفة فبمجرد تحقيق ذلك تمحي تلك الفوارق الاجتماعية بمرور الأيام.
البداية الفعلية للنضال الحقوقي
المحطة الأولى
كل ما ذكرناه سابقا لا نرى رغم أهميته إلا أنه مجرد ارهاصات لا غنى عنها في أي فكر تنويري تحديثي للمجتمع،، غير أن البداية الفعلية جاءت على يد الكتاب والمفكرين من أبناء فئة لمعلمين، حيث مكنت مقالاتهم وكتاباتهم من تنوير وتحريك الساحة بشكل أو بأخر. وهم على قلتهم من كان لهم الفضل في إقناع كل من جاء بعدهم.
المحطة الثانية
تمثلت هذه المرحلة في المبادرات العاملة في نضال لمعلمين وبرزت مبادرة الصناع العرب في سنة 2009م كأقوى مبادرة ظهورا، وكان لها الفضل في أول ظهور إعلامي يتطرق لقضية لمعلمين بشكل معلن وصريح.لذلك استحقت أن تحظى بإسهاماتها المميزة رغم قلتها بأن تفرد كمحظة مميزة من محطات نضال لمعلمين.
المحطة الثالثة
نتحدث في هذه المرحلة عن الفيسبوكيين اللذين ساهموا بشكل كبير في إشاعة قضية لمعلمين وطرحها بشكل ملفت على شريحة عريضة من أبناء الوطن من المثقفين والمهتمين بالأوساط الاجتماعية. وحملوا أفكار مهمة ك"أمعلم وأفتخر" تلك العبارة التي حصدت الكثير من المعجبين المؤيدين للنضال الحقوقي للمعلمين.
المحطة الرابعة
هذه المرحلة في فرسان النضال اللذين كتبوا على ألجدران تلك الكتابة التي سيكون لها الوقع البالغ على مسيرة النضال وتوجيه محطاته اللاحقة، حيث استفاق سكان مدينة نواكشوط على عبارات نضالية كتبت على بعض الجدران في العاصمة ليشكل ذلك بداية مرحلة مهمة وهي النزول للميدان وخطاب العامة بعد أن كان الخطاب مقتصرا على الفضاء الفيسبوكي والمقالات الموجهة للنخبة.
المحطة الخامسة
بعد كل هذه الجهود الكبيرة وغيرها مما لا يرقى إلى مستواها تمخض كيان ذاع صيته وملأ الدنيا شرقا وغربا وفجر الساعة أنشطة وأداء، ألا وهو حراك لمعلمين.
شكل هذا الكيان الحقوقي عن لجنة عرفت بلجنة توحيد الجهود، تلك اللجنة التي كلفت من طرف كل المنظمات والمبادرات العاملة في مجال قضية لمعلمين، حيث أقترحت وخططت ونفذت هذه اللجنة أول الندوات المخلدة لعيد الاستقلال الوطني الذي حمل عنوان "مبادرات ومنظمات لمعلمين يخلدون عيد الاستقلال الوطني الثالث والخمسين تحت شعار عيد الاستقلال الوطني برؤية صانعه المنسي" . غير أنه بعد هذه الندوة انسحبت منظمات من لجنة توحيد الجهود مما أرجعه البعض إلى لقاء بعضهم برئيس الجمهورية، كما انسحب البعض قبل الندوة بيوم واحد نتيجة لعدم الرضى بتقسيم الأدوار في الندوة. وقرر الباقون بعد الإنسحابات تشكيل إطار جديد سمي ب"حراك لمعلمين".
لعب حراك لمعلمين هذا أهم الأدوار في قضية لمعلمين بشكل عام حيث دخل بقوة واكتسح الساحة النضالية وركز على الإعلام كأهم وسيلة لإيصال الرسالة صوتا وصورة، وقام بعدد كبير من الأنشطة النضالية كالندوات العلمية والفكرية والخرجات التليفزيونية والإذاعية واللقاءات الرسمية وغير الرسمية مع رؤساء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والفاعلين والأطر والوجهاء وغيرهم.
لم يكن حراك لمعلمين واصحابه دعاة فتنة كما حاول البعض أن يوهم الرأي العام وإنما سعوا إلا تحديث مجتمعهم بطريقة سلمية نخبوية وجريئة، فكسروا كل القيود الاجتماعية من عادات بالية وتقاليد وهمية، وكان لهم الفضل في أول ندوة على الصعيد الوطني معادية للقبيلة حملت عنوان "القبيلة أخطر منافس للدولة" توالت بعدها الندوات المعادية للقبيلة من جهات مختلفة.
وكان الرأي العام الموريتاني أمام حدث أخر لم يصدقه حتى اللحظة وهو حل حراك لمعلمين،
كيف يعقل أن يحل حراك وكيان في دولة من دول العالم الثالث تتجاذبها المصالح وتتقاسمها التصالحات.
لقد حل حراك لمعلمين لأن اصحابه لا يريدون التفرقة بين أبناء المجتمع الواحد وإنما يسعون إلى تحديث مجتمعهم، وتمكينه من الرقي والازدهار في ظل دولة العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه دون النظر إلى جهته أو قبيلته.
كذلك عندما شعر أفراد حراك لمعلمين الذين يتحلون بمسؤولية كبيرة أنهم قدموا كل ما باستطاعتهم من أجل قضيتهم العادلة وأوصلوها لبر الأمان وأصبحت قضية وطنية تشغل الرأي العام الوطني فكروا في حل حراك لمعلمين الذي لم يؤسسوه من أجل أطماع فردية ولا لزعزعة الأمن الوطني بل أسسوه كمؤسسة حقوقية لها أهداف مشروعة تنتهي هذه المؤسسة بتحقيق هذه الاهداف ، هذا ما حدث في واقع الأمر.
غير أنهم أثناء مشاوراتهم أقترحوا محاولة توحيد الجهود مرة أخرى لعل الجميع يستطيع أن يقدم جهدا برؤية وطنية واضحة من أجل حلحلة القضايا الاجتماعية المطروحة، خصوصا في الجوانب التي لم يتم التطرق إليها أو التركيز عليها، وهي الجوانب المتعلقة بالظلم الاقتصادي والسياسي والوظيفي ومن أجل ذلك أيضا حل حراك لمعلمين وأسس نداء لمعلمين، الذي هو في طور النشأة حاليا. لكن هل تعاطت الدولة مع لمعلمين؟ أم أنها فضلت المنظومة الاجتماعية بكل سلبياتها؟.
الدولة ممثلة في الحكومة الوطنية رئيسا وحكومة هي المعنية بالدرجة الأولى عن حل كل القضايا الوطنية العالقة وصاحبة الحل والعقد في كل الملفات المطروحة ، ولعلها أدركت مبكرا أن قضية لمعلمين قضية عادلة وصريحة والظلم الذي مورس ويمارس على أبناء هذه الفئة واضح وجلي.، وهذه خطوة مهمة تمهد لما بعدها.
غير أن الدولة سلاح ذو حدين إن أرادت أن تقدم الحلول أو على الأصح أن تنفذ الحلول المقترحة من طرفها أولا ومن طرف أصحاب القضايا ثانيا فعلت، وكان ذلك مصدر ارتياح لدى الجميع، وإن أرادت أن تحاول إطفاء تلك الشمعة المضيئة بأساليبها المتعددة فعلت ذلك أيضا أو حاولت فعل ذلك وهو ما حصل مع حراك لمعلمين الذي حاول الجميع وأده في المهد.
ونحن بوصفنا معنيين بهذا النضال السلمي والعادل نرى أن الدولة ممثلة في الحكومة هي من يجب أن تتحمل كامل المسؤولية في إنصاف أبناء لمعلمين والمهمشين بصفة عامة وفي إشراكهم وتمكينهم من تقاسم ثروات بلدهم كأي فصيل من فصائل المجتمع، وهي من عليها كذلك إقامة دولة العدل والمساواة فالدولة تقوم على الكفر مع العدل ولا تقوم على الإيمان مع الجور.
الباحث. جدو ولد البشير
