"سوار الذهب" الموريتاني: العقيد الغامض \\ محمد سعدنا ولد الطالب

-A A +A
ثلاثاء, 2014-08-26 16:19

في التاسع عشر من إبريل من عام 2007، حبس الموريتانيون والعرب أنفاسهم، وتسمروا أمام شاشات التلفزيون، يتابعون مشهدا استثنائيا نادرا ما يتكرر في فضائاتنا العربية المثخنة بأحذية العسكر وجراحات الاستبداد، فحينها كان العقيد أعل ولد محمد فال يعيد تجربة الأيقونة السودانية "المشير سوار الذهب" ، حيث قام العقيد أعل حينها بتسليم السلطة للرئيس المدني المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله، بعد سنتين من انقلاب عسكري قاده بعض الضباط وتسلم فيه أعل الرئاسة خلال فترة انتقالية شهدت الكثير من الشد والجذب والشك والريبة والاحتمالات المفتوحة..

قيل الكثير وقتها عن أن العقيد أعل سلم السلطة مرغما من قبل القادة الحقيقين للمجلس العسكري، بل وذهب البعض إلى أن أعل حاول التنصل من التزامات العسكر والتمسك بالسلطة بالشدة أحيانا، وبالحيل "الدستورية" أحيانا أخرى، ورغم كل التفاصيل، إلا أن أعل ولد محمد فال خرج بالفعل من أسوار القصر الرئاسي وسلم السلطة للمدنيين، وهو ما جعله موضوع حفاوة استثنائية وتتالت عليه التبريكات والتبجيل ولقب بـ"سوار الذهب الموريتاني"..........

وبعد أن سلم السلطة خرج أعل من دائرة الفعل السياسي وانصرف إلى قضايا أخرى، على الأقل علنا، ولكن الفرحة الموريتانية لم تدم طويلا، والديمقراطية الوليدة لم تلبث أن وئدت تحت الأحذية الخشنة من جديد، وعلى أيد نفس الضباط الذين زفوا العروس الديمقراطية إلى الرئيس المدني ولد الشيخ عبدالله، ففي أغسطس 2008 قاد الجنرال عزيز ورفاقه انقلابا سلسا مهدوا له خلال نحو سنتين كانوا فيها هم الحكام الفعليين، فيما كان سيدي مجرد "واجهة" تسود ولا تحكم، بل وحتى "السيادة" نفسها كانت محل شك.................

جاء انقلاب 2008 صادما ومحبطا لكل الموريتانيين الذي صدقوا ذات لحظة سذاجة، أن الأحذية الخشنة يمكن أن تتصالح مع الصندوق الانتخابي، وبدأت حركة رفض سياسية وشعبية كبيرة للانقلاب أعادت "العقيد الغامض" لدائرة الضوء من جديد، فالرجل الذي مسك الأمن في عهد ولد الطايع نحو عقدين من الزمن ويمتلك شبكة علاقات، بعضها "مريب"، وجد الفرصة مرة أخرى، حيث انتظر حتى تم توقيع اتفاق داكار الشهير، لينزل إلى حلبة السباق الرئاسي من جديد، في خطوة لم يفهم الكثيرون مغزاها، فلإن كان البعض ربطها بطموح الرجل للعودة إلى السلطة من جديد، فإن آخرين لم يروا في الأمر سوى توزيع أدور بين العقيد و"ابن عمه" الرئيس عزيز....................

كان أداء العقيد متواضعا في الانتخابات، والنتيجة التي تحصل عليها هزيلة، لكن فعل المشاركة نفسه كان كافيا ليعلن للجميع أنه عائد إلى حلبة السياسة والشأن العام في موريتانيا، وهو ما كان بالفعل حيث نشط العقيد اعل بعدها في الحراك المعارض للرئيس عزيز والذي سعى لإسقاطه عبر "الرحيل" على طريقة الربيع العربي، وحضر أعل أغلب المهرجانات والمسيرات، وكان صوته الأعلى في انتقاد النظام، وهو أمر لم يكسبه ثقة المشككين، وهم كثر، فتاريخ الرجل على مدى عشرين عاما مع نظام ولد الطايع لم يكن يوحي بأنه "مؤمن بالديمقراطية ومدافع عنيد عنها"، كما أن العلاقات الأسرية والمصالح المتداخلة مع الرئيس عزيز كانت تمنح "الخبثاء" رفاهية الشك، في أن خلاف الرجلين ليس إلا مسرحية هزيلة لإضفاء مصداقية على الديمقراطية، أو على الأقل مجرد تبادل أدوار يلعب فيه العقيد دور المعارض الشرس للجنرال الحاكم، عله يكون الرئيس المقنع بعد أن تنتهي صلاحية الحاكم الحالي، وبذلك يستمر الحكم دولة بين "آل عليه" الكرام.....

غير أن الأشهر الأخيرة، وخاصة فترة مابعد انتخاب الرئيس عزيز لولاية جديدة، حملت تصعيدا خطيرا من قبل أعل وتكثيفا إعلاميا عبر سلسلة بيانات سياسية ومقابلات كان طابعها الأغلب تصاعد نبرة الانتقاد لنظام عزيز، بل والدخول في "مناطق شائكة"، خاصة حين تحدث العقيد أعل مؤخرا عن تحول الجيش إلى مجرد ميليشيا، بل وغاص في التفاصيل أكثر قائلا فيما يشبه التحريض أن نحو أربعين ضابطا حرموا من الترقيات لأن ولائهم غير مضمون، وهو أمر جعل الكثيرين يعيدون قراءة توجهات "العقيد الغامض"، بحيث أصبح البعض يعتقد فعلا أن مابين العقيد والجنرال خلاف حقيقي لا مجرد تمثيل وجد لا هزل فيه.....

خلف قامته المديدة، وشاربه الكث وابتسامته الخجولة وتاريخه العسكري والأمني الطويل، يخفي العقيد أعل الكثير من الغموض، وتكاد فلتات لسانه أن تظهر أن الرجل عاقد العزم على أمر ما "عندما" يحين الوقت المناسب، ولعل الأشهر المقبلة قد تحمل مفاجئاتها في بلد تعود على المفاجئات حتى لم يعد في قوس الدهشة منزع.