محمد ولد أمين، الوزير الذي دخل الأدب باسم مستعار (مقابلة)

-A A +A
ثلاثاء, 2014-08-26 16:36

من وزير في الحكومة، إلى اسم أدبي مستعار يحقق شهرة مفاجئة في الساحة الأدبية الموريتانية، عبر أول رواياته "مذكرات حسن ولد مختار" التي أثارت جدلاً واسعاً قبل أن تصدر مجدداً باسمه.

 أثرى الوزير لاحقاً، في وقت قياسي، الساحة الأدبية بروايته الثانية "منينة ابلانشيه" (يمكن قراءة مراجعة للرواية هنا). في حوار مع رصيف 22، يسلّط محمد ولد أمين الضوء على رؤيته للرواية العربية والعديد من القضايا.

بدأت الكتابة باسم مستعار سلسلة مقالات أثارت ضجة، وحقّقت، أنت السياسي المعروف في موريتانيا، خلف اسم مستعار شهرة أدبية. لماذا الاسم المستعار؟

منحني الاسم المستعار حرية كبيرة مع نفسي ومع الناس، فلم أفرض عليهم صفتي السياسية ومنصبي الوزاري، بل قدمت إليهم قلمي باسم مجهول، وأعفيتهم من مؤثرات خارجية. بهذه الطريقة، وضعتُ القارئ أمام النص بأفكاره ولغته آملاً أن يحكم عليه بموضوعية. ما زلت أنعم بذكريات جميلة حول تفاعل القراء مع حلقات الكتاب. كثيرون كتبوا لي على صفحة الرواية في فيسبوك تعليقات جميلة وصادقة. لكنهم عندما اكتشفوا أنهم يمجدون رجل دولة وشخصية يعرفونها تراجعوا، بل فيهم من راح يكتب عكس ذلك. ويعود السبب بكل بساطة إلى أن العامة في بلداننا يستغربون أي شراكة بين السلطة والثقافة، إذ تعودوا على الوزير البيروقراطي والمتصومع في برجه العاجي.

يشكو البعض من "التناكر الثقافي" بين المثقفين العرب، إذ قلما تجد مثقفاً  يكتب عن الآخر وعن إنتاجه.

هذه ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل لم أستطع الحصول على تفسير مقنع لهذا الموضوع المؤسف. والأصعب هو أن كتاب المغرب العربي كثيراً ما يتحدثون عن صدود مشرقي تجاههم.

 

لماذا هناك خصام أو خلاف بين السياسي والمثقف؟ هذا الخصام ناتج عن تفشي القبح الوبائي وارتباط السلطة بالقمع. السلطة في دولنا امتداد لمؤسسة الأب وهي مؤسسة آمرة وقسرية.

ثم هناك خلافات جوهرية كبيرة بين النشاطَين. فالسياسي يتعامل مع الأحداث العامة تعاملاً لحظوياً وتبعاً لمفهوم المصلحة العامة: الربح  العام أو الخسارة العامة، في حين يتطرق المثقف لها في إطار قيمي وجمالي مختلف. الأمثل في رأيي هو اختلاط الصفتين في شخص واحد كما أوصى أرسطو "إذا لم يكن الحاكم فيلسوفاً فإنها الكارثة"، ويأتي الفيلسوف هنا بمعنى المثقف المتسائل.

 

من الشخصيات النادرة في منطقتنا الغرب أفريقية، لفتني الشاعر ليبولد سيدار سنغور Leopold Sedar Senghor الذي كان رئيساً للجمهورية السنغالية، خصوصاً يوم طلب منه بعض الملوك في العالم العربي مساعدتهم على طرد مصر السادات من منظمة الوحدة الإفريقية عقاباً لها على الصلح المنفرد مع إسرائيل سنة 1979، فقال: "إذا كنتم تتصورون الجامعة العربية دون مصر، فأنا لا أستطيع أن أتخيل إفريقيا دونها، ماذا سأقول لفراعنة منف؟ ماذا سأقول للغابرين في طيبة؟". هذا الموقف نابع من حاضنة شاعر استلهم التراث المصري القديم وتعشقه أكثر منه موقفاً سياسياً.

 

هل تتصور أن الأدب يخلد صاحبه؟ بكل تأكيد. يروي لنا تاريخ العراق قصة ماني، فيلسوف المانوية الشهير، الذي رفض السجود للملك الإله فسأله عن السبب فأجاب "في ألف سنة، في ألفي سنة سيتحدثون عنك يا هذا لأن طريقك تقاطع مع طريقي". وها نحن نتحدث عن الواقعة وعن غيرها! فمن هو سيف الدولة دون شعر المتنبي؟ ومن هو الاسكندر دون أرسطو؟ حتى في العصور الحديثة، ما إن نتحدث عن ديغول De Gaule والديغولية حتى نتذكر أندريه مالرو André Malraux. الارتباط نفسه موجود في ذهني بين الأستاذ حسنين هيكل والضابط المصري عبد الناصر، الذي أقام العالم ولم يقعده بكلمات عذبة كتبها الصحافي هيكل. الحكم ظاهرة نسبية وعابرة، والعلم والإبداع أمور تتوطن في المطلق والمستمر.

في رواية "مذكرات حسن مختار" يمكن القول إنك لعبت على الروح السياسية أكثر من غيرها. أما تزال "الرواية السياسية" مغامرة ببعدها الفني أكثر من بعدها الموقفي؟

الرواية من أجمل الفنون ومن أرقى الصنائع، والسياسة تفقدها أمارات النبل. لكن هناك فرقاً بين السياسة والقضية، فالسياسة عمل يومي ولكن القضية فكرة. وراء كل عمل أدبي قضية. في "مذكرات حسن مختار" هناك أبعاد سياسية لكنها لم تكن الأهم، الأهم كان معاينة الغربة الداخلية للفرد في إطار نسبية المكان. الرواية تنقلك من أزقة مدينة "كيفة" وسط موريتانيا إلى شوارع باريس وبغداد وتعود بك أيضاً إلى نقطة البداية، وقد لا يخفى عليك أن الأمكنة لا تعيش في زمن واحد.

 

كيف لا تعيش في زمن واحد؟ وكل أحداثها قريبة ومتتالية في زمننا الراهن؟ هل يعيش العبيد المنعتقون للتو في "كيفة" والقابعون دوماً في جوف الصحراء الكبرى في الزمن نفسه الذي يعيش فيه أهل باريس؟ بالنسبة لي لكل مكان زمانه الخاص وقيمه وأوضاعه. كما قال باسكال Pascal، الحقيقة شمال البيرنيه ليست الحقيقة جنوبها وما هو مشروع في باريس ربما ممجوج في مدريد. أجمل ما في عصرنا القلق والمتوهج هو بدون شك هذه القابلية العجيبة للتنقل بين الأزمان في وقت قصير. من يسمونهم داعش اليوم لا يعيشون في زمننا بالمعنى الفلسفي للكلمة، وهنا سر التوالد الحدثي في رواية حسن مختار. إنه تجاور الأزمنة في أمكنة مختلفة وخلال وقت مشترك في الساعة والروزنامة نفسيهما.

 

في "مذكرات حسن ولد مختار"، تصف اشتعال "سدوم" او انتحاره وكيف كانت أخته تنشد البيت المشهور القائل: "كأن بالنار ما بالماء من بلل، وبالماء ما بالنار من ضرم!". يعدّ سدوم رمزاً تراثياً محلياً وقد ربطت ذلك باشتعال البوعزيزي. هل تقصد القول إن التراث اشتعل نهائياً؟

عنصر النار يواجه دوماً ويستكمل عنصر الماء وفي كليهما حياة وتوهج وهذا ما فطن له صاحب البيت وهو شاعر صوفي مشهور. التراث العربي لا يشكل سنداً ولا حاضنة للتخلف والتقهقر، والمشكلة العربية ليست مشكلة مع التراث بقدر ما هي مسألة فلسفية ارتفع الضجيج فوقها وغطاها بموجات صوتية ضخمة. في هذه الحالات لا بد من الحد الأدنى من استعادة العرب حقهم المنزوع في نقاش مسائلهم بهدوء بما فيها عقابيل الاكتواء الأعظم التي يسمونها في الصحافة الربيع العربي.

 

في هذا الجو كتبت "مذكرات حسن ولد مختار" وهي ليست رواية ثورية- وأنا شخصياً لا أؤمن بالرواية الثورية- وإنما هي جدل داخلي حول مسائل مفرطة في المحلية وأخرى مفرطة في العالمية. هذه الرواية تدور أساساً حول محنة "الكاست"، أي الطبقات الاجتماعية الموريتانية، عبر معاينة تلك القوالب الغريبة التي تجعل المرء يولد ومعه مصيره وماهيته المهنية والاجتماعية، يولد ليكون عالماً أو شاعراً، فارساً أو عبداً، مغنياً أو حداداً. وقد لاحظت أن العالم أجمع أصبح يضع الدول والمجتمعات في قوالب مشابهة، فهناك دول خلقت لتكون منتجعات وأخرى لتبقى قائدة. وهذا هو نقل المحلي للعالمية حتى ولو رفض بعض النقاد تطابق القياس.

يحدث أن نندهش بالشباب خريجي الثقافة الغربية الذين يكتبون بهذه اللغة العربية الفصحى الفاتنة؟ ما مصدر تلك اللغة؟ لقد تلقيت تربية مشرقية ومغاربية في آن واحد وتعليماً عصرياً منفتحاً، ثم درست وعشت في أوروبا مدة طويلة وتنقلت في هذا العالم الفسيح خلال عشرين سنة من العمل الديبلوماسي اختلطت فيها بلغات وتجارب ومجتمعات مختلفة لكنني بقيت عربياً في لغتي وعاداتي. نعم، تبقى اللغة الأم وحدها الأقدر على نقل روائح وهمسات العابرين. الأدب العربي المكتوب بالفرنسية أو الانجليزية أدب مشوش ومبتور وفي غير محله، يشبه كثيراً نخيل الكوت دازور أو نخيل كاليفورنيا، باسق لكنه لقيط.

 

لعل أصعب ما يواجه أي روائي هو التفريق بين النموذجي والنمطي في الحياة. كيف تعاملت مع هذين الشكلين؟

لا أظن ذلك إشكالاً، الأعمق والأصعب هو التفريق بين الواقعي والمتوهم.

 

كيف ذلك؟ المتعة الكبرى لأي روائي، حتى ولو أنكر جلهم ذلك، هي في الولوج الواهم لعالم صنع على الحدود الفاصلة بين الواقع والمتخيل. مثلاً حين كنت أكتب "مذكرات حسن ولد مختار" استلهمت ذكرياتي الخاصة عن أشخاص حقيقيين في مدينة "كيفة"، التي عرفتها في طفولتي، ومن بينهم إمام الجامع ومدبّر سينما البلدة. بطبيعة الحال، كنت أنفخ أرواحاً وأنساقاً مختلفة في الشخصيات، وأحملها شحنات تعبيرية، بطرق وتقنيات سردية معقدة. هذه الشخصيات تبلورت بشكل مخالف للأشخاص الحقيقيين، وهذا طبيعي ومألوف في فن الرواية.

 

لكن المشكلة الطريفة أنه في الانتخابات البلدية الماضية في "كيفة"، ترشح ابن امام البلدة ضد بنت مدير السينما- وكنت أنا شخصياً أقاطع الانتخابات كباقي المعارضين- فوجدتني أكتب على صفحتي على الفيسبوك الرسالة الآتية: "يا أهل "كيفة" لا تصوتوا لابن الشيخ عبد المجيد. ولا تصوتوا لابنة جاك صاحب سينما الأفراح!"، ناسياً أنني أتحدث عن شخصيات روايتي مكان أشخاص واقعيين. في إحدى المرات أيضاً، كنت في مكان قريب من ربوة "لكصر" وهو المكان نفسه الذي كانت عليه قلعة منينة في رواية "منينة بلانشيه" وكان معي صديق وقارئ جيد لما أكتب، فقال لي: لنتوقف أمام بوابة القلعة. قدت السيارة إلى مكان ما من الربوة وقلت له هنا... تصور أنك تتحدث عن قلعة لم توجد قط، لكنها وجدت في عالم الأخيلة! بكل صراحة أظن أن هذه هي أكبر صعوبة تواجه الروائي في حياته الحقيقية أو الواقعية اليومية. وهي صعوبة الذهاب والإياب المستمر بين عالمين!

من أثر فيك من الروائيين العرب، وكيف تنظر لمستقبل الرواية العربية على ضوء الإصدارات الأخيرة؟

نجيب محفوظ أثر في الجميع، حتى أنه كاد أن يحنط الرواية العربية، وأنا في مرحلة ما أحببت كثيراً رواياته. من بين الاكتشافات الكبيرة أيضاً أدب عبد الرحمن منيف، وهو أدب صحراوي يتفاعل في بيئة تشبه بيئتي الأصلية، وكذلك إبراهيم الكوني والطيب صالح، والصومالي نور الدين فرح. هذا طبعاً دون الانتقاص من قيمة الروائيين العرب الآخرين.

 

لماذا لم تأخذ الرواية العربية مكانتها اللائقة عالمياً؟ هذا لأن القارئ الغربي عنصري وانتقائي، فالبريطاني لا يهتم إلا بأدبه الانجلوسكسوني والغربي عموماً. الرواية العربية رواية عالمية بكل المقاييس الإبداعية، لكنها تعاني من تمييز ينطبق على كل ما هو عربي. البضاعة العربية الوحيدة المرغوبة غربياً هي النفط. إنني كنت لأعجب تمام العجب من درجة انتشار رواية "الخيميائي" للبرازيلي باولو كويلهو وهي رواية "إسلامية" مسحوبة من تراثنا ويكتب كتّابنا مثيلاتها كل يوم، حتى أفهمني أحد النقاد الإسبان سبب ذلك حين قال: "الخيميائي تقول إن الشاب الإسباني الذي ذهب للأهرامات عبر سفر تكريسي هو أوروبا لأنها تبعت أسطورتها الخاصة فنجحت. خلافاً للشباب العرب الذين انهالوا يقرعونه ويضربونه في سفح الهرم، وفيهم من قال له أنا أحلم كل ليلة بكاتدرائية إسبانية ولم أذهب إليها يا غبي". كويلهو صار نجماً عالمياً لأنه وصل لخلاصة تقول إن العرب لم يتبعوا أساطيرهم الخاصة فهزموا.

 

 

نقلا عن موقع رصيف 22