كتّابُ موريتانيا: بلّعمش، ولد امّيْن، أبو العباس../ حماه الله ولد السالم

-A A +A
أحد, 2014-10-19 06:55

الشعوب التي ليس لها كُتّاب، شعوب لا تفكّر ولا تحْلم، إنها في الواقع، كمن يقتات على الزبالة يحسبها سمنا وعسلا، لأنه ببساطة لم يجد من "يتحدّث" عن السمن والعسل بالوصف أو التصور!

نادرا ما تحظى الإنسانية بكاتب مرموق، بل إن من الشعوب العظيمة من يُفاخر العالم بكاتب واحد، ويحرص على تكريمه ودعمه، حتى أن جوزيف ستالين، في عنفوان دكتاتوريته، ظلّ يحتفي بكُتّاب الإتحاد السوفيتي، ويعتبرهم تاج الثورة الشيوعية، ويهدد رفاقه بالويل والثبور إذا تنقصوا من أي كاتب سوفيتي مرموق، مهما كانت أخطاؤه أو زلاته!

يحْدث ذلك في بلد اشتراكي شمولي، تحْكُمه القبضة الحديدية. أما البلدان الغربية الأخرى فللكتّاب فيها من المكانة والتقدير أعظيم نصيب.

ليست الكتابة أمرا سهلا، بل إنها فن وإبداع، وصنْعة قائمة بذاتها، تطلب مهارة ودقة وجهدا واستعدادا فطريا من النادر توافره إلا للقلة.

وأن يحظى مجتمع بكاتب واحد، أمر يعادل، تماما، وجود عالم في أي ميدان من العلوم والمعارف.

لم يحظ شعبنا في القديم، بكاتب واحد، لأنّ نظام إنتاج المعارف والثقافة كان مداره على الأدباء والفقهاء، أما بعد الاستقلال فلم تعر الدولة لتلك المعطاة أي اهتمام.

أنتجت (المحاضر) علماء متمكّنين في العلوم العربية والإسلامية الاستدلالية، لأنها كانت تعبيرا مؤسسيا عن "الإجماع" التاريخي التي انبثق في دار الإسلام منذ قرون وظل متماسكا إلى ما قبل الغزو الاستعماري بقليل.

أما الجامعة الوطنية فلم تقدّم مفكّرا واحدا، رغم التراكم الأكاديمي المعتبر، لأنها تخضع لحصار مخابراتي وسياسي، يمنعها أن تكون فضاء للتفكير والحوار، ثم بفعل سيطرة "المدْرسيّة" وأدْوائها، وغياب الاهتمام بـ"النماذج التفسيرية المعرفية" التي تسمح للباحثين بتجاوز الأطر الضيقة لاختصاصاتهم، والتطلع إلى إنشاء "المشاريع المعرفية" حول التراث أو في الفكر المعاصر.

وما يزال مناخ الرداءة الفكرية والمؤسسية، المستمر من عقود، ينتج العملات الرديئة، (علاّمة، مفكّر، الكاتب،..) والتي أفرغت من مضامينها ومعانيها، وبقيت خاوية على عروشها، وجعلت منها مجرد عناوين فارغة وألقاب خاطئة كاذبة ينتحلها من يشاء من الأميين وأشباه المتعلمين ومن دون حياء، حتى أن بعضهم أصر ذات يوم على أن يتم تقديمه في حوار مع قناة الجزيرة بصفة المفكر الإسلامي والكاتب والباحث، ورغم أنه يعرف أنه عار عن هذه الأوصاف، لكن الأدهى والأمرّ أنه لا يدرك أي معنى منهجي أو معرفي لتلك الألقاب!

في مجتمعنا تسود حالة من "التّبْخيس"، يجعل من "كل شيئ" شيئا عاديا، يمكن لأي كان أن يمتلكه أو يتحدث فيه أو ينتحله، صفة أو مرتبة، بل إن بلدنا يعتقد كل فرد فيه، مهما ضعفت ملكاته العقلية والعملية، أنه يساوي الآخرين أيًّا تكن مراتبهم العلمية والفكرية!

هو حال بائس أسْلمنا له واقع مرّ، جعل مداركنا منحطة وأذواقنا سقيمة، بل كدنا نفقد القدرة على الحسّ السليم.

أذكر أن مستمعا للإذاعة العمومية، اتصل على صحفي طيّب، في برنامج يحظى بشعبية لافتة، وطرح عليه سؤالا غريبا، عن السبب في اختفاء الفوارق بين أنواع الشاي؟ بينما كان موضوع الحلقة عن آراء "المواطنين" بشأن أول انتخابات بلدية في ظل نظام العسكر!

كان المذيع لبقا، ومتسامحا مع الرأي الآخر، لكنه أجاب بحدّة: إن أصناف الشاي لا فرق بينها البتة! وكان جوابا رسميا بامتياز، لان السؤال كان سياسيا في المقام الأول، ولأنه يكشف عن ذكاء نادر المثال، تفطّن صاحبه إلى أن الرداءة السياسية ليست منقطعة الصلة عن تراجع مستوى الذائقة المجتمعية.

وغالبا ما تكون الصحف القومية، مدارس للكتابة والكُتّاب، ومراكز للتنوير والإبداع، لكنها كانت لدينا، ومنذ البداية، أداة للرّقابة على الكلمة، ووسيلة لحصار الإبداع والكفاءة.

قطعا ساهم "التصوف الإيديولوجي" الذي خامر العقول والألباب، في منع الموريتانيين من إدراك معنى الكتابة، وجعلهم ينتجون كمها هائلا من الكلام المركوم بعضه فوق بعضا، تعصّبا و جهالة، ظل يملأ المنشورات السرية، تماما كما يغطي اليوم مختلف المواقع على الانترنت، ويحسب أصحابه أنهم يكتبون أو يبدعون.

لكن موريتانيا اليوم، لحسن الطالع، حظيت بثلاثة كتّاب مرموقين هم: سيدي علي بلّعمش (كاتب سياسي)، محمد ولد أمّيْن (كاتب روائي)، أبو العباس ولد ابراهام (كاتب في الفكر السياسي).

وإذا كان شعبنا يفخر بعلمائه في القديم، فإن لنا اليوم أن نعتز بكتّبنا هؤلاء، وأن نجعلهم نافذتنا على "الزمان الثقافي" العربي المعاصر الذي انقطعنا منه منذ قرن أو يزيد.

ويبدو أن ظهور هؤلاء المبدعين، كان وثيق الصلة بمناخ الانقلاب على الديمقراطية، وكأنه تعويض القدر عن غيابها، ولذلك فهم يضيئون كالقناديل المُسْرجة التي تسمح لأبناء شعبنا بأن يروا بصيصا من النور في نهاية النفق!