ميّ زيادة ألهمت كثيرين.. وأوهمت آخرين (مراجعة جديدة لسيرة حياتها)

-A A +A
جمعة, 2015-01-30 23:26

هل ظلت عزباء نتيجة حادثة مؤلمة تعرضت لها ؟ كيف وصفت نفسها وكيف وصفها سلامة موسى والعقاد؟ ميّ عن نفسها: ولدت في بلد وأبي من بلد وأمي من بلد وسكني في بلد ، منزل والدها يصبح منزلا فخما في باريس وابنته تتحول إلى مدام دوستايل !

من هم رواد صالون ميّ الذي كان يقع في منزلها قرب مبنى جريدة الأهرام القديمة

 

هام بها أحمد لطفي السيد وأرسل لها رسائل تفيض حبًا

 

بعض أفراد عائلتها أدخلوها مصحًا عقليًا بهدف الاستيلاء على ثروتها

 

جبران رجل محوري في حياتها توطدت بينهما علاقة أفلاطونية دون أي لقاء

 

كانت أهم أديبة عربية في الثلث الأول من القرن العشرين

 

صالونها الثقافي كان ظاهرة كبيرة ورواده نخبة متميزة من رجال الأدب والفكر

 

لم تبادل معجبيها أو محبيها حبًا بحب وإنما بادلتهم الحب باللطف والمودة

 

لم تكن تبحث عن اللهو إنما عن حبيب تتزوجه

 

بقلم - جهاد فاضل:

 

امرأة مجهولة في مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في لبنان تخطّ على صفحة بيضاء عنوان كتابها "ليالي العصفورية"، تسترجع فيه حياتها وتعود بنا إلى الماضي بأسلوب "الفلاش باك" لنشاركها نصف قرن من الكفاح والطموح والخيبات. هذا هو المشهد الأول من مسلسل "الآنسة ميّ" الذي يتناول سيرة الأديبة اللبنانية المتمصرة ميّ زيادة المولودة في الناصرة بفلسطين (لأب لبناني هو إلياس زيادة ولأم سورية اسمها نزهة معمر) سنة 1886 والمتوفاة في القاهرة سنة 1941.

 

المسلسل كتبه سمير سعد مراد وأخرجه يوسف الخوري، وهو يرتكز على دراسة تاريخية تفصيلية قام بها الكاتب حول شخصية الكاتبة الكبيرة الراحلة امتدت كما يقول عشر سنوات. وقد كتب كثيرون عن ميّ، وبخاصة حول ندوتها الأدبية الأسبوعية والأدباء الذين كانوا يشاركون فيها، وكذلك عن الدور الثقافي والأدبي الذي اضطلعت به ميّ في زمانها.

 

من الناحية الدرامية، قال الذين اطلعوا على مادة المسلسل إن كاتبه بذل جهده حتى توصل إلى خفايا غامضة في سيرة ميّ، قضت ميّ حياتها عزباء نتيجة حادثة مؤلمة تعرضت لها في طفولتها، إضافة إلى معاناتها مع بعض أفراد عائلتها الذين أدخلوها مصحًا عقليًا بهدف الاستيلاء على ثروتها، ومن هؤلاء بشكل خاص ابن عمها وحبيبها يوسف زيادة الذي تآمر عليها من أجل مالها لتعيش في نهاية حياتها وحيدة في منزل متواضع في بلدة غزير بقضاء كسروان، قبل أن تعود إلى القاهرة لتموت فيها. ويسرد العمل أبرز المنعطفات في حياة ميّ المهنية، وبداياتها في فن الكتابة والصعوبات التي واجهتها كأنثى في هذا المجال، ما أجبرها على استخدام ثلاثة أسماء مختلفة، فحملت أولى مقالاتها اسم رجل.

 

كما يتطرق العمل إلى رجل محوري في حياتها هو جبران خليل جبران وكيف توطدت علاقة أفلاطونية بينهما على مدى سنوات طويلة دون أن تقترن بأي لقاء بينهما. فهو في أمريكا وهي في مصر والبحار والاوقيانوسات تفصل بينهما.

 

كما يلقي العمل الضوء على أحداث سياسية كثيرة عاصرتها هي، ودورها البارز في صحيفة "المحروسة" التي ترأست تحريرها بعد وفاة والدها إلياس زيادة، إضافة إلى مشاركتها في نشاطات فكرية وثقافية كثيرة سواء في لبنان وسوريا أو في مصر التي عاشت فيها أكثر حياتها.

 

هذا هو الجديد في سيرة كاتبة يبدو أن الزمن لن يمر عليها. ذلك أنها لاتزال تبعث الحيوية والخصوبة لدى باحثين كثيرين يعودون إليها بين الوقت والآخر، ويستنتجون من سيرتها وأدبها الكثير، والواقع أن الدراسات عنها تتوالى بين وقت وآخر، سواء في مصر أو في لبنان، وكان أحدثها كتابًا عنوانه "مي زيادة/ نشوء وارتقاء المثقفة الحرة" للدكتور سليم مجاعص. وقبل فترة صدرت عن مجمع أبوظبي الثقافي "أعمال مجهولة" لميّ، لم تكن معروفة في السابق. وإذا كانت سيرة ميّ الذاتية، والعاطفية على الخصوص، معروفة أكثر من أدبها وشعرها (لها مجموعة شعرية بالفرنسية صدرت في القاهرة عام 1911 عنوانها "أزاهير حلم" وبتوقيع إيزيس كوبيا)، فإن الباحثين المتأخرين في هذا الأدب والشعر وقفوا مذهولين أمام روائع كتبتها ميّ بعد أن استقرت في القاهرة، وبعد أن أمضت خمس سنوات تدرس العربية وآدابها في الجامعة المصرية. أتقنت العربية بعد أن أتقنت عدة لغات غربية، وكانت بلا شك أهم أديبة عربية في الثلث الأول من القرن العشرين.

 

ترسم ميّ لوحة لصورتها في رسالة من رسائلها إلى أديبة لبنانية هي جوليا طعمة دمشقية، فتقول:"صحيح أنك لم تهتد بعد إلى صورتي؟.

 

فهاكها: "استحضري فتاة سمراء كالبن أو كالتمرهندي، كما يقول الشعراء، أو كالمسك كما يقول متيم العامرية، وضيفي إليها طابعًا سديميًا - فليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير المتناقض - من وجد وشوق وذهول وجوع فكري لا يكتفي وعطش روحي لا يرتوي، يرافق أولئك جميعًا استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشجن والألم - وهذا هو الغالب دومًا - وأطلقي على هذا المجموع اسم ميّ، تري من يساجلك الساعة قلمها"!.

 

ونعثر على صورة حسية لميّ كتبها سلامة موسى:"هي مستديرة الوجه وطفاء الأهداب دعجاء العينين يتألق الذكاء في بريقهما، يجلّل وجهها الجميل شعر جثل أسحم وتلعب أبدًا على شفتيها ابتسامة الخفر".

 

وفي رثاء عباس محمود العقاد لها يرد هذا البيت:

 

وذكاء ألمعي كالشهاب

 

وجمال قدسي لا يُعاب!

 

 

 

وكانت ولادتها غريبة، وقد أشارت هي إلى ذلك في بعض ما كتبت: "ولدتُ في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد. فلأي هذه البلدان أنتمي، وعن أي هذه البلدان أدافع"؟.

 

هكذا تعبّر ميّ ببساطة عن تساؤلات تداعت إلى مخيلتها عندما انتقلت مع والديها إلى القاهرة سنة 1908 ثم توالت الأحداث في حياتها تحمل الإجابات عن هذه التساؤلات:

 

ولدت في بلد: كانت ولادة ميّ في مدينة الناصرة بفلسطين.

 

وأبي من بلد: كان والدها إلياس زيادة من قرية شحتول إحدى قرى قضاء كسروان في لبنان.

 

وأمي من بلد: وكانت نزهة معمر والدة ميّ فلسطينية من أصول سورية.

 

وسكني في بلد: انتقلت الأسرة إلى القاهرة، وفيها يمارس الوالد مهنة الصحافة وتلتحق ميّ بالجامعة المصرية قبل أن تحترف الأدب والصحافة، وتشتهر بصالونها الأدبي الشهير.

 

أما كيف كانت بداياتها الأدبية، وكيف نشأ صالونها الأدبي، فإن الباحثين يتحدثون في عام 1913، وعن شهر أبريل بالذات، حيث أقيم في الجامعة المصرية بالقاهرة حفل لتكريم الشاعر خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بالوسام المجيدي. يشارك في التكريم عدد كبير من رجال الفكر والشعر، ويبعث الأديب المهجري جبران خليل جبران من مستقره الأمريكي بكلمة لكي تُلقى باسمه في المهرجان، ويُعهد إلى ميّ بإلقائها، وكانت تلك تجربة تخوضها للمرة الأولى، ما جعلها تتدرب على الإلقاء في بيتها حتى لا تتهيب الموقف الخطابي. ولما ألقت كلمة جبران بهرت جمهور الحاضرين وكادت بسحرها تغطي على جميع المتحدثين. وكانت هذه هي المواجهة الأولى بين ميّ ومجتمع الثقافة، ما أغرى عددًا من قادة الفكر وفي طليعتهم الشاعر إسماعيل صبري باشا، بإبداء رغبتهم في زيارة ميّ في بيتها. وعندئذ عرضت ميّ عوضًا عن هذه الزيارات الفردية، إقامة ندوة أسبوعية تضمهم جميعًا.

 

ثم وجهت الدعوة إلى عقدها اعتبارًا من شهر أغسطس 1914، وظلت تقيم هذا الصالون نحو ربع قرن بانتظام دقيق لا تخالفه إلا في رحلاتها الصيفية إلى بلدها لبنان أو إلى أوروبا.

 

يصف سليم سركيس صالون ميّ الأدبي كما يلي:"مساء كل ثلاثاء يتحول منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة "المحروسة" إلى منزل فخم في باريس وتتحول الفتاة ميّ التي لاتزال في أواخر العقد الثاني من عمرها إلى مدام دوستايل، ومدام ريكامييه، وعائشة الباعونية، وولادة بنت المستكفي ووردة اليازجية، في شخص ومدارك الآنسة ميّ ويتحول مجلسها إلى فرع من سوق عكاظ والأكاديمي وتروج المباحث العلمية والفلسفية والأدبية في مجلس يحضره إسماعيل صبري ولطفي السيد وشبلي شميل وخليل مطران وأحمد زكي باشا يهزون بأحاديثهم ومناقشاتهم أغصان شجرة ذات ثمر، ويحركون وردة ذات أريج، والآنسة ميّ بينهم تناقش هذا وتدفع حجة ذاك".

 

كان هذا الصالون ظاهرة كبيرة في مطلع القرن الماضي، وكان رواده نخبة متميزة من رجال الأدب والفكر لا يقتصرون على من ذكرهم سليم سركيس، فبالإضافة إلى من ذكرهم، كان هناك أيضًا أمير الشعراء شوقي وطه حسين والرافعي ورشيد رضا أحيانًا وولي الدين يكن، والمازني وأحمد حسن الزيات الذي يقدم صورة مشرقة لميّ في صالونها:"إنها تشارك في كل علم، وتفيض في كل حديث، وتختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة، كأن فيها أفضل ما في الرجل وخير ما في المرأة، فمن كان يسمعها خطيبة، أو يشهدها محدثة كان يحسبها - وقد استدارت على رأسها الأنيق هالة من السحر والفتنة - إحدى بنات جوبيتر التسع، ، قد سرقت من أخواتها أسرار فنونهن ثم هبطت من فوق جبل البرناس إلى ضفاف النيل"!.

 

فهذا أمير الشعراء شوقي أحد رواد صالونها يترجم انطباعاته عن مي وندوتها الأسبوعية بقوله:

 

أسائل خاطري عما سباني

 

أحسن الخلق أم حسن البيان؟

 

رأيت تنافس الحسنين فيها

 

كأنهما لميّة عاشقان

 

إذا نطقت صبا عقلي إليها

 

وإن بسمت إلي صبا جناني

 

وما أدري أتبسم عن حنين

 

إلي بقلبها أم عن حنان؟

 

أم أن شبابها راثٍ لشيبي

 

وما أوهى زماني من كياني؟.

 

ويصف العقاد بعض جوانب هذه الندوة الأسبوعية:"فتاة جميلة أديبة يزورها أدباء وشعراء وكتاب قصة وأصحاب ذوق في جمال العصمة وجمال الطلعة، إن فات أحدًا من هؤلاء واجب التحية المناسبة للمقام، فما هو بزائر صالح لمثل هذه الزيارة، ولو لم تكن زيارة عشق ومناجاة، وإن فات ميّاً أن تتقبل هذه التحيات، أو وجب عليها أن تصدها بالعبوس والغضب، فليست هي زيارة ندوة إذن.. ولكنها زيارة واحدة قد تنتهي كما تبتدئ عند باب الدار. وهذا هو تأويل الرسائل على أسلوب الفن العاطفي ، أو العاطفة الفنية، بين صاحبة الندوة وأكثر من زائر من نخبة هؤلاء الزوار، ولكل منهم أسلوبه في تعبيره داخل هذا الإطار من التحية: لطفي السيد وأسلوب الجنتلمان، وعبدالعزيز فهمي وأسلوب الصمت والخجل وكأنه الصبي في مجلس الفتيات القريبات، وأنطون الجميل وأسلوب بائع الجواهر في معرض الهوانم وشبلي الشميل وأسلوب المصارع في حلبة الفكر والشعور، وخليل مطران وأسلوب موليير على غير مسرح التمثيل وسليم سركيس وأسلوب الدعاية للبيوتات في صالون من أشهر صالونات البيوت، ومصطفى صادق الرافعي وأسلوب المفاجأة بالكتابة التي يغني الاطلاع عليها عن السماع، وإسماعيل صبري وأسلوب الشاعر الذي يعلم أن حق الغزل الصريح أولى بالرعاية من حق الكتابة والتصحيح، وأحمد شوقي وأسلوب الإيحاء من بعيد، وعليه تعليق الفيلسوف المعجب بالطرفين".

 

ويختم العقاد مقاله:"وقد كنت، كلما ازددت معرفة بمي وبحياتها في ندوتها وفي بيتها، أشعر بحنان هؤلاء الأفاضل الأبويين نحوها، فإنهم ولا ريب كانوا يقصدون التسرية عنها، ويدركون من بواكير صباها أن فرط التزمت في طويتها يجاوز حده المأمور، وأنها توشك أن تعاني كثيرًا من عادة العزلة النفسية التي جنت عليها في آخريات أيامها وأنها تغالب شجنًا كمينًا لانطوائها الشديد على ذاتها، نميل إلى أنه مزيج من الصدمة العاطفية وشعور التبتل العميق في سليقتها الدينية"!.

 

وكان من الطبيعي أن يُغرم بميّ بعض هؤلاء الرواد، أو أكثرهم. قبل سنوات نشرت "الهلال" رسائل من أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد إليها تفيض حبًا وهيامًا، الرافعي جنّ بها غرامًا، وفكر أن يتخذها ضرة لزوجته.

 

بل إنه كتب أوراقًا كالتميمة ظن أنها تجلب له قلب ميّ وتحببه فيه، وعلقها على سارية بأعلى منزله تتلاعب بها الريح. وفي الآنسة مي كتب الرافعي "رسائل الأحزان" و"أوراق الورد" وكان شديد الغيرة عليها، وكان زكي مبارك من المولعين بها، وكذلك كان عباس محمود العقاد، وسلامة موسى، وكثيرون غير هؤلاء ولكن هل أحبت ميّ أحد هؤلاء؟.

 

يُجمع الباحثون على أن ميّ لم تبادل "معجبيها"، أو "محبيها" حبًا بحب وإنما بادلتهم الحب باللطف والمودة، إن جاز التعبير ، ما عدا عباس محمود العقاد الذي قيل إنه ظفر منها مرة بقبلة لعلها كانت أقرب إلى القبلة الأخوية منها إلى قبل العشاق لم تكن مي تبحث عن اللهو أو عن العلاقات العاطفية العابرة، وإنما كانت تبحث عن حبيب تتزوجه، وقد شاءت الظروف أن تتعثر حكايات عاطفية حزينة لها مع أقربائها في لبنان، ومع قريب أو غريب آخر كان يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية اسمه جبران خليل جبران تبادلت معه رسائل بالغة الرقة والعذوبة والجمال، تعتبر من بين أجمل ما تركته ميّ من أدب تراسل خالد بكل معنى الكلمة، ومن أجمل ما تركه العشاق العذريون في التاريخ.

 

في إحدى رسائلها الخالدة إلى جبران تقول مي:

 

"ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به. ولكني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب، إني أنتظر من الحب كثيرًا فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر، أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، ولكن القليل في الحب لا يرضيني. الجفاف والقحط واللاشيء خير من النزر اليسير.. غابت الشمس وراء الأفق، ومن خلال السحب العجيبة الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة، نجمة لامعة هي الزهرة الهة الحب أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويشوقون ربما وجد فيها من هي مثلي لها واحد جبران حلو بعيد بعيد هو القريب القريب، تكتب إليه الآن والشفق يملأ الفضاء، وتعلم أن الظلام يخلف الشفق، وأن النور يتبع الظلام، وأن الليل سيخلف النهار، والنهار سيتبع الليل مرات كثيرة قبل أن ترى الذي تحبه، فتتسرب إليها كل وحشة الشفق وكل وحشة الليل فتلقي بالقلم جانبًا لتحتمي من الوحشة في اسم واحد"جبران"!.

 

عندما نمعن النظر بمضمون هذه الرسالة نكاد نرى ميّ ماثلة أمامنا في صورة امرأة تذوب رقة، وعاشقة متيمة برّح بها الجوى، وفتاة غلبها الهوى على تكتمها واحتراسها فباحت به بكل ما تكدس في جوارحها من عواطف مكبوتة، وما تميزت به شخصيتها من صدق وخفر ومثالية.

 

كتبت مي في إحدى مقالاتها تقول إن أحب الأشياء إليها "البحر والسماء والعيون" وقالت في الحب والمعرفة:"أليس الحب والمعرفة ماء البشرية ونورها؟" وشهد بحسن ذوقها في العناية بالنباتات والزهور التي كانت تزين ردهات الدور التي سكنتها، وفي انتقاء ملابسها سائر الذين عاصروها وعرفوها عن قرب. قالت مرة عن أناقة المرأة في إحدى خطبها:"ألسنا نفاخر وجميع أمم الأرض تفاخر معنا، بزخرفة متاحفنا وكنائسنا ومعابدنا وأثاث بيوتنا وكل ما له صلة بنا؟ فلم إذن نعيب على المرأة زينتها، وهي التي يُطلب منها أن توجد الجمال وتوزعه في جميع نواحي الحياة؟".

 

وهذا ما يؤكد مجددًا ولعها بالجمال وحرصها على إشاعته حيثما وجدت، حتى في حديثها وكتابتها وخطها، إن خطها الفارسي البديع انعكاس واضح لحسن ذوقها، وتنظيم فكرها.

 

ومن أطرف ما وقف عليه دارسوها أنها كانت تجيد التلحين كما تجيد العزف والغناء. ومما يؤكد هذا الاكتشاف لموهبة مي قولها للأستاذ جبر ضوميط في إحدى رسائلها إليه معقبة "على بيت شعر واحد ذكره لها من قصيدة نظمها:"وكلما مرت معانيها في خاطري قابلتها بهذا النشيد الشجي الذي أكرر توقيعه على العود:

 

خبرينا يا نُسيمات الصباح

 

عن زمان قد مضى في عهد مي

 

ما أشجي هذا النشيد على قرار النهوند ! غير أني أسفة إذ ليس لدي سوى بيت واحد أظل أعيده كما تعيد الأمواج حكايتها العذبة المطربة"!.

 

واستكمالاً لوصف هذا الجانب في شخصية ميّ، تجدر الإشارة إلى أنها كانت مع كل حركة فنية جديدة تلوح تباشيرها في عصرها، وتفرح لكل وثبة إبداعية في الأدب والشعر والموسيقى والرسم، بمقالات تشجع فيها ما يستحق التشجيع، وتنقد فيها ما يستدعي النقد لكن نقدها كان رفيقًا كرفق شخصيتها ورقة طبعها.

 

كتبت مرة:"أي شيء أجمل من الفن، وأي شيء أقدر منه على تصفية النفوس وترقية الميول وتطهير الأفكار وتنقية العواطف وإذا انفتح هذا الباب، باب الغبطة المعنوية، فهو لا يغلق أبدًا، بل يعبره المرء إلى عالم جديد تملأه مسرات وآلام تتضاءل أمامها المسرات والآلام الأخرى".

 

تعرضت ميّ في سنواتها الأخيرة لمحنة صحية ونفسية قاسية، أتى بها أقرباؤها اللبنانيون من القاهرة إلى لبنان ثم أودعوها مستشفى المجانين (واسمه عندنا مستشفى العصفورية) لاحقًا بحجة أنها مريضة عقليًا بنظرهم وبنظر بعض الأطباء الذين تواطأوا معهم. ولكنها تمكنت بفضل أصدقاء مخلصين لها من الخروج من المستشفى، استأجروا لها منزلاً في محلة رأس بيروت أقامت فيه فترة قبل أن تعود إلى القاهرة لتموت وتدفن فيها، وإلى اليوم مازال لميّ مكانة كريمة في تاريخ الأدب العربي المعاصر بدليل الدراسات التي تصدر عنها في هذه العاصمة العربية أو تلك، وهذا يعني أن مي لاتزال حاضرة في ذاكرة الأدب وذاكرة العرب إلى اليوم.