التأويلية الإسلامية والنموذج المسيحي

-A A +A
ثلاثاء, 2015-02-24 00:56
د. السيد ولد أباه

في الوقت الذي سجلت مبيعات «الترجمات» القرآنية رقماً قياسياً في أوروبا في الآونة الأخيرة، تحول موضوع تأويلية النص الديني الإسلامي إلى موضوع أثير في الأدبيات الإعلامية التي امتلأت بالمقالات والمقابلات حول مسالك فهم وتفسير القرآن من منظور سيطرت عليه الإشكالات الراهنة المتعلقة بالعنف والتشدد والإرهاب.

ولقد تمحور هذا الجدل حول التأويلية القرآنية حول موضوعين أساسيين: علاقة القانوني- السياسي بالعقدي في بنية النص ونسقه الدلالي، وصورة الآخر المخالف في الدين وإطار الارتباط معه من حيث أحكام العلاقة والمعاملة.

 

 

الصورة السائدة في هذا السياق هي أن القرآن الكريم ينبني على القول بتماهي وتداخل الأبعاد العقدية بالجوانب التشريعية والسياسية مما يحول الإسلام إلى مدونة تشريع تفصيلي لا مكان فيها لتأويلية إنسانية حرة ولا تسمح بالتالي بالتأقلم مع أسس وقيم الشرعية المدنية الحديثة، كما أنه من حيث منظوره للحقيقة والخلاص لا يمكن أن يتعامل مع غير المسلم إلا من منطق الإلغاء والحرب.

وليس من همنا التعليق على هذه الأطروحة المتهافتة التي توقفنا عندها من قبل عدة مرات، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن العديد من الوجوه «الإصلاحية» المسلمة في الغرب التي تهيمن على الواجهة الإعلامية (من أمثال مالك شبل ورشيد بن زين وغالب بن شيخ) تسعى إلى مواجهة نزعة الخوف من الإسلام المتصاعدة بفتح أفق تأويلي جديد للنص من خلال آليتين لا تخرجان في العمق عن نفس المصادرة السائدة، سواء من خلال النقد التاريخي الذي يطبق على القرآن الكريم نفس مناهج النقد التي طبقت من قبل على العهدين القديم والجديد للوصول إلى النتيجة نفسها أي النظر إلى الكتاب الذي بين أيدي المسلمين في ضوء تدوين الأمة وفهمها وليس متماهياً بالضرورة مع الأصل المنزل، أو من خلال توسيع آلية التأويل البشري بحيث تكون ناسخة لمنطوق النص وأحكامه.

وفي الحالتين تظل «التأويلية الإصلاحية» المقترحة سجينة لنماذج التأويلية المسيحية التي تختلف في الخلفيات والمرجعيات والسياق عن التأويلية الإسلامية في منحيين رئيسيين: منزلة النص وسلطة التأويل. الفرق واسع بين تقليد تأويلي يحول الكلمة إلى المستوى الإلهي (عقيدة التجسد) وبين تقليد ينظر إلى النص كوحي إلهي أي رسالة إلى البشر بلغتهم وأنماط تعبيرهم وتراعي سياقاتهم الثقافية والمجتمعية وتتفاعل مع تاريخهم، فعلى رغم الخلاف الكلامي المعروف حول عقيدة خلق القرآن فلا أحد من المسلمين يقول بتماهي الكلام الإلهي مع الذات الإلهية نفسها.

كما أن الفرق جلي بين تقليد يخول سلطة مؤسسية قائمة حق التأويل الشرعي للنص في ارتباط بإدارة الخلاص الروحي، وبين تقليد قائم على رفض السلطة الكهنوتية، مما يعني فتح آفاق التأويل للنص دون تحكم تعسفي.

صحيح أن التأويلية القرآنية المعاصرة لا تزال في خطواتها الأولى ولم تستفد إلا بطريقة محدودة من المناهج التأويلية الحديثة الخصبة التي تسمح باستكشاف آفاق رحبة لدلالات النص على عكس المسالك المستمدة من الهرمنوطيقا (التأويلية) المسيحية التي هي على مسحتها النقدية من آثار النقاش اللاهوتي الداخلي ولا فائدة كبرى ترجى منها في تجديد التأويلية الإسلامية.

ومن المعروف أن السياق الأصلي للتأويلية الغربية التي تداخلت مع أفكار التنوير الأوروبي هو سياق المسألة اللاهوتية السياسية باعتبار أن الفصل المطلوب بين الكنيسة والدولة يقتضي حسم موضوع السلطة التأويلية للدين، ومن هنا التمييز بين حلول ثلاثة بارزة: حصر شرعية التأويل بالسلطة السيادية للدولة (هوبز)، ترجمة مضامين الملة بلغة العقل العمومي الكوني (سبينوزا وكانط)، كسر السلطة التأويلية من خلال فردية الفهم الذاتي (بايل).

وما أفضت إليه هذه المسارات التأويلية هو أمران أساسيان: علمنة القيم الدينية في منظومة الحقوق الطبيعية للإنسان وعقلنة مضامين النص من خلال أدوات الهرمنوطيقا التي تحولت في دلالتها الواسعة إلى أساس القول الفلسفي المعاصر.

لم تكن إذن هذه التأويلية التنويرية في جانبها النقدي خروجاً عن التقليد المسيحي بل كانت أثراً من آثاره، ومن هنا إذا كان من الضروري تجديد العدة التأويلية الإسلامية إلا أنه من الُخلف تحميلها رهانات غريبة عنها.. فـ«تنصير» الإسلام ليس هو الحل.