الإسلام السياسي في موريتانيا: مسارات ومآلات/ حماه الله ولد السالم، كاتب موريتاني

-A A +A
ثلاثاء, 2014-07-08 18:19

(وهذه العجالة مجرد عرض لأفكار أوليّة سيتم تعميقها في كتاب مستقل ). نشر فينصانه مونتاي (Vincent Monteil ) كتابه البارز بالفرنسية (L’Islam noir) ونترجمه هنا بـ(الإسلام الأفريقي) بدلا من الإسلام الأسود. وشكل أهم الأعمال الغربية المعاصرة في بابه، رغم وجود مساهمات أنجلوفونية قيمة وأساسية حول الهوية الإسلامية في أفريقيا جنوب الصحراء.

بشّر كتاب مونتاي بأطروحة متعددة الأوجه، تلح على خصوصية التدين الأفريقي، وكون عناصره "التاريخية" تستعصي على التذويب، وأن الإسلام في البلاد الأفريقية هو ديانة أفريقية تقليدية بلبوس إسلامي، أما إسلام جيرانهم "البيضان" فهو مجرد تدين شكلي صحراوي غالب متأثر بالروح القبلية الأعرابية والتراث الصنهاجي قبل الإسلام.، أما تجلياته المعاصرة فهي ممارسات تدينية شكلية متعايشة مع الإطار العصري.

وحتى معظم الكتابات الوطنية الجديدة، رغم وجاهتها، تسقط في فخ التحليل المادي التقليدي وبتلوينات سياسوية وأنتربولوجية جديدة، أدخلها الإنبهار بالكتابات الأمريكية حول الإسلام السياسي وما يسمى الإرهاب..، ما يفرغها من طاقتها التفسيرية، ولذلك نجد نتائجها تبالغ في العوامل السياسية والإقتصادية في تحليل الظاهرة الإسلامية والحقل الديني العام.

 

والغريب أن الخلاصات التي تصل إليها بعض تلك الدراسات، ليست تفسيرا محددا، بل مجموعة من الأسئلة المفتوحة ويبدو رواجها المحلي المحدود ملحوظا فقط في الأوساط التي تتبنى ذات المقدمات التي تؤسس لتلك الدراسات أما في الخارج فتجد رواجها بسهولة لأنها تنتمي إلى الحقل ذاته.

وتبدو الفكرة المحورية للدراسات الغربية، وامتداداتها المحلية، توكيدا لذات الأطروحة: إنه الإسلام نفسه مجرد تلوينات اجتماعية وصراعات إيديولوجية، وهو هنا في موريتانيا إسلامات طائفية وقبلية تعبر من خلاله تلك الجماعات عن رؤيتها ومصالحها، تماما كإسلام الفرق والمذاهب في الشرق الأوسط.

يضاف إلى ذلك النقص الجوهري في تلك الدراسات والناتج عن ضعف الإطلاع على الإسلام نفسه وعلى تراثه الفقهي وحتى على روح التدين المحلي وتجلياته المؤسسية والاجتماعية، فضلا عن العنصر الذاتي ـ غير الموضوعي ـ بالغ الأثر على منتجيها بحكم موقفهم من المجتمع والدين نفسه.

أما في المجال الرسمي والحياة العامة، فتسود رؤية متذبذبة بين الحذر من الإسلام الوافد، أو الغريب، وبين الخوف من هذا الحقل المفتوح الذي ينتج المواقف المعارضة والراديكالية.

 

وتنبع المواقف المعارضة للإسلام السياسي في موريتانيا من خلفيات متنوعة، بعضها أمني سلطوي ماثل في الدولة العميقة التي ترفض هذا الخطاب السياسي الحامل للمطلق الديني وفي صورة معارضة ومستقلة بينما ترفض الدولة الشمولية وجود مطلقين في الحقل العام، والبعض الآخر سيسيولوجي قبلي يرفض صعود سياسيا للنخب الدينية الجديدة المختلفة عنه مجتمعيا أو المنافسة له تاريخيا، بل إن بعض النخب الزاوية ذات الميول الأمازيغية الدفينة، لا تجد في الإسلام السياسي غير المدرسة السنية العربية ذاتها بلبوس جديد، وهو ذاته موقف الجماعة العلمانية الفرنكفونية التي تعتبر الإسلام السياسي، عودة للعروبة ومن بابها الواسع وهو القرآن الكريم ذاته، ما قد يمكن للعربية بشكل أقوى يتجاوز العرق والثقافة.

 

ويواجه الإسلام التاريخي في موريتانيا حملة ظالمة تحمّله كل شرور المجتمع، وتفوّق إليه سهام النقد كل الجماعات "المظلومة" اجتماعيا وحتى تلك "المغبونة" دينيا. وتبدو تلك الحملة المسعورة وكأنها موجهة إلى طبقة الزوايا بحسبانها القيّمة تاريخيا على الدين تأويلا وممارسة.

 

تبقى القبيلة المحدّد الأول لشرعية الخطاب الإسلامي العام في موريتانيا، بمختلف مراتبه وتلويناته السياسية والاجتماعية، ولذلك تظل البيئة القبلية أداة التحليل الأصح تفسيرية لمواقف منتجي الخطاب الإسلامي واختياراتهم وردود فعلهم، سواء تعلق الأمر بالقبيلة كحاضنة لأنماط التدين أو للمعارف الدينية أو حتى للسلوك والمزاج وأيضا بوصفها العامل الرئيس في الأحداث التاريخية.

 

ويصدق ذلك بشكل أكبر على النخب الدينية المشكلة للإسلام الرسمي، كما يصلح لتفسير جزئي لمواقف النخبة الموريتانية "الزاوية" في علاقتها بالإسلام السياسي فهما أو علاقة.

 

أما النخبة المنتمية إلى الإسلام السياسي، فإن الطابع التقليدي (التأثير الثقافي والديني للقبيلة والوظيفي ـ الزاوي) يهيمن بشكل كبير على مواقفها وأدوارها بشكل لافت، ويبدو هو السبب الأول في مسعى الدولة (في عهد هيدالة مثلا) لاحتضانها والإفادة من شرعيتها الاجتماعية (الزواية) قبل التعامل معها بوصفها نخبة إسلامية مسيّسة بشكل صرف، وقد التحق رموزها بالسلطة، كل بطريقته، في عدة محطات، أهمها أخيرا انضمام الوجه الإسلامي البارز بوميه بن ابياه، وهو من من أكثر تلك الوجوه الإسلامية التقليدية ـ المسيسة مصداقية وتجربة، ويشكل التحاقه بالسلطة الفصل الأخير لمسار النخبة السياسية الإسلامية التقليدية في علاقتها بالدولة، والتمايز النهائي بينها والنخب الإسلامية الشابة التي تدير العمل السياسي الإسلامي المعارض. وهو تطور بارز في تشكل الإسلام السياسي الموريتاني اليوم.

 

وإن كان الخطاب الإسلامي الموريتاني يبدو ضعيفا ونمطيا، لكن عنصر المعارضة فيه، قد يعطيه بعض الحيوية والإبانة، وإن كانت تغلب عليه الصبغة الإخوانية المصرية فكريا وإيديولوجيا، وتقل جرعة الفكر السياسي المعاصر إلا في مواقف فردية وقراءات خاصة ليس لها كبير صدى بين المناضلين.

 

لقد ولدت الحركة الإسلامية الموريتانية ولادة طبيعية، من رحم هذا المجتمع ومن قلب مؤسساته الأصيلة، بين المسجد والمحضرة، وليست تنظيما مستوردا من "الخارج" أو حراكا طفيليا تغذوه أموال الخليج كما يحلو لبعضهم لوكوه و ترداده.

 

وليس ذلك بناف حقيقة التأثير الواسع للمال الخليجي في حقل التدين العام في موريتانيا، الرسمي والمعارض، السياسي والتقليدي، الدعوي والتدريسي، وأيضا بمختلف الممارسات الصحيحة والخاطئة للفرد والجماعة.

 

نشأت الحركة الإسلامية الموريتانية بوصفها "جماعة مسجد" تتطلع إلى تجاوز الفعل المألوف للفقهاء والأئمة إلى تفعيل دينها في الحياة العامة تطلعا إلى إعادة القيم الإسلامية إلى المشهد العام، تماما كغيرها من القوى الإسلامية السياسية.

 

ولذلك كانت نشأة الإسلام السياسي الموريتاني رد فعل على فشل التيار اليساري والقومي في مواجهة "الغزو الثقافي" وفشل مشروع الدولة الوطنية و أيضا بحثا من النخب الأصلية "المُحاصرة" منذ الاستقلال، عن شرعية الفعل السياسي في ظل ممارسات تسلطية تحتكر المجال العام.

 

"جماعة المسجد" كانت على علم بتجربة تنظيم الإخوان في مصر وعلى معرفة بأفكار مؤسسها الإمام حسن البنا ومنه استلهمت رؤيتها الإسلامية للسياسة والواقع ومشكلات العالم الإسلامي.

 

ويبدو ذلك الاستلهام منطقيا أيضا، لأن التجربة التاريخية "للإسلام الزاوي" في موريتانيا، لا تشجع على استلهامه لإنتاج فعل سياسي معارض لواقع قائم هو في مجمله نتاج لتلك التجربة أو بتشريع منها.

 

ورغم ذلك حرصت جماعة الإصلاحيين التي شكلت حزب تواصل، على ربط خطابها بإسلام الفقهاء في موريتانيا قبل الاستعمار.

 

وفي خطابه بمناسبة مؤتمر حزب تواصل الثاني أعلن رئيسه الحالي محمد جميل أنهم في الحزب (وبالطبع في الحركة) يعتبرون مواقف العلماء أمثال الشيخ المختار الكنتي والشيخ ماء العينين والشيخ سيديا بابا وأمثالهم مرجعية يبنون عليها ومنها يستلهمون ..

 

وهو إعلان غير دقيق من الوجهة التاريخية والمعرفية؛ لأن هؤلاء العلماء ومن تلوهم، ولو اختلفت مواقفهم بشأن النازلة الاستعمارية وقبلها من الصراع القادري ـ التجاني، والمزاج التديُّني، هم في مواقفهم سواء من الشرعية السنية نفسها إزاء الحكم والاجتماع والعرف، ولذلك لا يمكن للإسلام السياسي أن يكون استمرارية لأفكار تلك النخبة العالمة، تماما كما لا يشكل الإخوان المسلمون في مصر استمرارا للحركة الإصلاحية المصرية (الأفغاني ـ عبده ـ رضا) إلا من حيث التوافق في المبدأ الإسلامي المشترك والعام.

 

وبالطبع ليس الإسلام السياسي، في كل جماعاته، استمرارا للفرق الإسلامية القديمة قبل الدولة الحديثة أحرى أن يكون امتدادا للأفكار الإصلاحية الحديثة، إنه خطاب سياسي ابن عصره.

 

لا يهتم الإخوان في موريتانيا بالتلوينات العقدية وحتى المذهبية، ولذلك نجد من بينهم من هو سلفي ومن هو أشعري وحتى متصوف وفق أكثر الجماعات طرقية.

 

ولذلك لا تشكل جماعة الإخوان استمرارية للإسلام "الموريتاني التقليدي"، لا بنواته الأصلية ولا بمسارته الإصلاحية المحدودة، بل إن الإسلام السياسي الموريتاني هو منتج معاصر جدا، وهو ليد اللحظة الحاضرة ويراهن ـ كغيره من الحركات الإسلامية ـ على الدولة بوصفها أداة التغيير وحقل الممارسة السياسية المجردة.

 

ويبدو الإسلام السياسي الموريتاني أقرب إلى نظيره في السودان واليمن، أكثر من البيئات العربية الأخرى، لأسباب تتعلق بالتكوين التاريخي للدولة والمجتمع وسيرورة حضور الإسلام وعلاقته بالقبيلة والسلطة.

 

لقد أطاح التحديث الفج والفوقي، والعصرنة المشوهة، والحكم التسلطي، بمكانة العلماء التي سمحت لهم الدولة السلطانية العتيقة، رغم أزمة الاجتماع السياسي الإسلامي، بالدفاع عن الشرعية وقيادة المجتمع والقوامة على الشريعة إنتاجا وتأويلا.

 

ومع مسار التحديث الاستعماري والوطني، وعلمنة المجتمع وتقنين الشريعة، تحت دعاوى مختلفة، تراجع دور الفقهاء بخاصة، ومكانة العلماء إجمالا في جسم الدولة الوطنية لصالح نخب "عصرية" مختلفة من كتاب وتراجمة وإداريين وغيرهم، أداروا الكيان الجديد وأفادوا من ريعه المادي والرمزي ما جعل القوى التقليدية تفقد قوتها شيئا فشيئا، وهو ما أنتج فراغا في الشرعية الدينية سعت قوى الإسلام السياسي لملئه وتعويضه، ما جعل الدولة تشعر من جديد بحاجتها الماسة إلى المؤسسة الدينية التي ستجد نفسها هذه المرة مجرد جزء من القطاع العام، ما أفقدها الكثير من مكانتها بين مسلمي البلاد الذين وجدوا في الإسلام السياسي المعارض صوتا رافضا لهيمنة القيم العلمانية والاستهلاكية وعنف السلطة وحيفها وفسادها.

 

وما تزال مؤسسة الفقهاء هي الخصم الحقيقي للإسلام السياسي، لأنها تمثل إسلام الدولة والقبيلة ولذلك يجد الإسلام السياسي الموريتاني نفسه محاصرا في المجتمع القبلي، ولم ينجح في اختراقه إلا في حالات نادرة، وفي ظروف خاصة، من قبيل أزمة ظرفية بين السلطة والقبيلة أو خصاص مبين في توزيع الريع العام.

 

ويبدو اليوم حضور الثلاثة الرجال: ابن بيه ــ حمدا ـ ولد امباله في مشهد الإسلام الرسمي، مجرد استمرار لإسلام الزوايا مؤسسة ورؤية وموقفا وعلاقة بأهل الشوكة ثم بالدولة الحديثة "العلمانية"، ولم يجد أولئك أي ضرورة لتغيير خطابهم ومواقفهم رغم انتقال السلطان من الحزب الواحد إلى العسكر المتحد.

 

وفي الحقل الديني العام تبدو قبيلة مسّومة (اللمتونية ـ المرابطية) كما لو كانت هي التي تتصدر المجال الديني الموريتاني، إفتاء وإمامة ودعوة، في مسار يبدو مألوفا من الوجهة التاريخية، بالرغم من الإسهام البارز للقبائل الزاوية الأخرى.

 

وبذلك يبدو الإسلام المرابطي هو الحائز على الشرعية في ظل الدولة الحديثة، تماما كما كان قبل ولادتها طيلة قرون عدة.

 

ولذلك لم يحز أي عالم من "الأصل الحساني" مكانة في الإسلام الرسمي، رغم وجود عدة أسماء بارزة ومتمكنة ربما أكثر من بعض الأسماء الزاوية المعروفة.

 

كان استدعاء الإمام بداه من بوادي الترارزة إلى العاصمة، مجرد استكمال رسمي لإجراءات بناء العاصمة الرسمية، بحيث يكون الإمام منتم لقبيلة تندغا التي تملك هوية المكان، لكن صلابة الإمام بداه وقوة شخصيته ـ رغم اعتداله ـ جعلته تدريجيا يتحول إلى خصم للممارسات "الاحتفالية" المخالفة للعرف الإسلامي والتي كانت تجري في ظل الدولة الحديثة، بفعل الجرعة العلمانية القوية في جسم الدولة آنذاك، وسرعان ما أصبح بيت الإمام بداه ومسجده ملاذا للشباب المحضريين المتطلعين إلى حياة أكثر إسلامية، ثم ما لبث الإمام نفسه أن أصبح داعية إصلاح إسلامي معتدل يقف على مسافة متوازنة من السلطة و"معارضيها" ويحدب على الشباب الإسلامي ويعتاده بالنصح والإرشاد، لكنه في الحصيلة يعتبر أقرب إلى صف الإسلام السياسي منه إلى الإسلام الرسمي التقليدي. وهو الحال ـ تقريبا ـ في حقل الدعوة التي حظيت بداعية محترم واسع التأثير وعظيم المصداقية هو ولد سيدي يحي، لكنه بدأ أخيرا ينأى بنفسه عن الصدام مع السلطة القائمة، وبات ـ على نحو لافت ـ يهتم بالدرس الفقهي التقليدي (تعليم المتون الفقهية الأولية)، على حساب خطابه الدعوي الأكثر تسيسا وقربا من الحركة الإسلامية.

 

يبدو الإسلام السياسي الموريتاني، كما لو كان بطاقة الصعود إلى الفاعلية السياسية والمجتمعية، للنخبة الشابة، التي لا تجد منفذا إلى "حقل السلطة العام" بسبب السدود القبلية والرسمية، تماما كالإسلام السلفي الذي يجد فيه بعض الشباب المترف وصيلة للقطيعة "الحياة المادية" أو رد فعل متمرد على بيئة غير متدينة أو حتى للتقليل من الشعور بالإثم؛ أما الفئات التي تعلن أنها تشعر بالتهميش فهي تستدعي في التدين الجوانب الأكثر طهرية وتميزا عن الإسلامي السائد.

 

مواقف الشيخ محمد الحسن الددو مزيج من السلفية السرورية والرؤية السياسية الإخوانية، في الآن نفسه، مع تأثير بالغ لبيئته الأسرية التي درس فيها ونشأ، حيث تسود نزعة غلابة للتهدئة مع السلطة. ولذلك ظل هذا العالم الشاب معتدلا ومهادنا رغم "الضغوط" السياسية المختلفة.

 

أما النخبة الإسلامية الشابة فتواجه مناخا اجتماعيا قبليا مسموما، أو تشويها رسميا واسعا، وليس سرا أن بعض النخب الزاوية التقليدية، لاسيما حول العاصمة، تشعر بحساسية زائدة تجاه السياسي الإسلامي الصاعد محمد جميل بن إبراهيم بن منصور، ربما بسبب خلفيته الاجتماعية الحسّانية (العربية)، فضلا عن طموحه السياسي اللافت والمزعج لهم أيضا.

 

ظل الإسلام السياسي الموريتاني يكسب مواقع جديدة، كل يوم تقريبا، ويقتحم مواقع كانت حكرا على السلطة أو المتحدثين باسمها دينيا، وصار ملجأ للمغاضبين للحزب الحاكم في الانتخابات، ثم حاضنة للجماعات "المتمردة" على السلطة من طلبة وخريجين وبطالين.

 

صرح الرئيس الحالي بفشل المقاربة الأمنية لمواجهة الإسلام السياسي، ما يدل على إجراءات أقل قسوة لتحجيم الإسلاميين ومحاصرتهم، وذلك بالرغم من قرار حل جمعية المستقبل الإسلامية المحسوبة على التواصليين، لكنه يبدو أنه كان رسالة ظرفية، أكثر منه تغييرا في السلوك الرسمي تجاه التواصليين تحديدا.

 

لم تعلن الميول العلمانية عن نفسها في معظم الأحزاب والتيارات السياسية الموريتانية، باستثناء البعث والكادحين، لأسباب إيديولوجية وموضوعية وحتى عملية تتعلق بمنطلقات الجماعتين.

 

أما الناصريون فقد كانوا في الأصل أكثر احتضانا للفكرة الإسلامية نفسها، قبل المفاصلة بينهم في ما عرف بمؤتمر المقاطعة الخامسة، وفيه تمايز فريقان، أحدهما لائكي صرف، وفق حدود معارفه السياسية، والآخر أكثر تشبثا بالمرجعية الإسلامية في طابعها المحلي.

 

ورغم ندرة الصدام بين الدولة العميقة والطرق الصوفية، تبدو العلاقة شبه منقطعة بين الدولة العميقة والطريقة التجانية، لاسيما في فرعها الإبراهيمي ماثلا في مؤسسة أهل النحوي، أما العلاقة مع باقي فروع التجانية فيطبعها الفتور.

 

هز الربيع العربي المجال السياسي والاجتماعي، لكن وقعه كان أقوى على مؤسسة العلماء الذين وجودا أنفسهم في وضع أكثر حدية لا يسمح لهم بالمناورة فكان أن أعلن بعضهم من الموالين للدولة العميقة موقفا صراحا من الربيع ومآلاته، بينما وجد البعض الآخر فرصته لتأكيد ثوريته ونزعته للتغيير.

 

الإسلام السياسي هو خطاب معارض قبل كل شيء، وسيفقد جزءا كبيرا من فاعليته ومكانته إذا اختار مواقع أكثر محافظة ومهادنة.

 

دلت الخبرة التاريخية في مختلف الأقطار العربية على أن الدولة العميقة هي الخصم المبين للإسلام السياسي، ولاسيما في البلدان التي تحوز فيها المؤسسة العسكرية مكانة بارزة، أما الدول ذات الطابع الملكي فقد ظلت العلاقة مع السياسي تتراوح بين المهادنة والتفاهم باستثناء حالات قليلة.

 

العلاقة بين الدولة العميقة في موريتانيا والإسلام السياسي تُراوِح بين الجفاء والمهادنة، ما جعل مواقف الحركة الإسلامية "التواصلية" متذبذبة، بين المعارضة "الجزئية" والتفاهم الظرفي مع النظام، لكن الربيع العربي كاد يجهز على تلك الحالة، وحولها إلى العداء الصراح، ربما بفعل المناخ العام للصدام بين الدولة العميقة العربية والإسلاميين في مختلف الأقطار.

 

تزداد جرعة التدين في صفوف المجموعات التي توصف بالمهمشة، ولاسيما شريحة الحراطين العريضة، وتتراجع حدة الراديكالية في صفوفها على الرغم من الإلحاح الرسمي "المريب" على أهمية خطاب الكراهية الملحوظ لدى بعض عناصر هذه الشريحة العربية.

 

يعتقد المتعلقون بالنموذج الغربي أن ضخ المنتج الحداثي في الجسم الاجتماعي، يؤدي، مباشرة، إلى تراجع القيم الإسلامية تدريجيا أو ضعف تأثيرها في الحقل العام.

 

بينما دلت التجربة على أن الإسلام يعزز مواقعه في كل الميادين، رغم شراسة التشويه والعنف الرمزي والمؤسسي المسلط من الأنظمة ومن النخب العلمانية.

 

لا تحوز النخبة العلمانية الموريتانية أي شعبية، ولذلك تعزز مواقعها في جهاز الدولة أو في الهيئات المدنية المستفيدة من الدعم الأجنبي. وباتت تشعر بالرعب كلما تصاعد الشعور الديني الشعبي تفاعلا مع قضية إسلامية خارجية أو احتجاجا على عمل يمس بالقيم الإسلامية.

 

يشكو الإسلام السياسي الموريتاني فقرا نظريا مخيفا، ويعاني مناضلوه حساسية زائدة تجاه النقد والنقاش، لكنهم يمتلكون قدرة ملحوظة على التعبئة لاسيما في الأوساط الشبابية.

 

كما يعزز تماسكه بحفاظه على نواة حركية صلبة، هي عماد حزبه الرسمي، وتعمل أحيانا بشكل مواز مع نشاط اجتماعي واسع في حقل الدعوة والعمل الخيري.

 

يعمل النظام الرسمي على تصفية تدريجية للإسلام السياسي عبر تجفيف منابعه الخيرية عبر إغلاقها واستبدالها بهيئات بديلة تديرها الدولة أو من يمثلها، ثم سيتجه إلى العملية ذاتها تجاه الهيئات الأخرى.

 

لكن مسارات الأمور تتوقف على ما سيحدث بين النظام ومعارضيه، وما ستؤول إليه المواجهة بين النظام المصري والإسلاميين وحلفائهم.

 

(وهذه العجالة مجرد عرض لأفكار أوليّة سيتم تعميقها في كتاب مستقل )