الحوار الجفول..! محمد الكوري ولد العربي

-A A +A
سبت, 2015-08-29 10:05

يعود الحديث ،هذه الأيام، عن الحوار السياسي ، مثلما جرى عنه في فترات سابقة. وقد تعود من يتابعون الساحة السياسية على هذا الحديث المعاد في كل مرة يبدو فيها الحوار أبعد منالا وأقل وجاهة ، وتظهر فيها الأطراف المعنية به حرونة . غير أن "إذاعة الخدمة العمومية" ، فضلا منها وتكرما ، تظل ماسكة بحبل الوصال بين الفرقاء، حتى ولو كان ذلك من قبيل ( منىً إن تكن حقاً تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا) . فهذه الإذاعة، لحسن الحظ، لا تعرف الملل وليست من ضمن الجهات التي يصيبها اليأس والإحباط من معاودة أطروحات ،حول الحوار، تفتقر ،بالدوام، إلى المضمون السياسي أو المحتوى الاجتماعي والثقافي ، ولكن تبتلع الزمن وتستنزف الجهد ،عبثا، في إطار ندوات يتكامل فيها الجد مع الفراغ ، دون أن يتمكن المدعوون إليها ، برغم الخسارة الكبيرة في الوقت المهدور في مطاردة الأوهام، من تحقيق انجاز عملي أو نظري عندما يعودون لدفتر تقييم الأفعال والأقوال. وهكذا، تنتهي هذه الندوات ، في كل مرة ، بمثل الذي انتهت إليه أخواتها ، في مناسبات مضت، وبذات الأسلوب ، الذي لا يعتريه التبدل. فتكون "الحصيلة التاريخية" من تفاعل خميرة النخبة الوطنية ، سياسيا وثقافيا، في "أربع وثمانين ندوة" ، إلى الآن، أكداسا من الكلام المسكوب في قوالب لغوية تنقصها الحياة ، في غياب أي طرح ، من أي طرف من الأطراف، يستعمل منطقا مختلفا في المضمون، أو يصدر من بيئة مفهومية تختلف في انتاج الخطاب ، الذي يرجع إليه ، في مثل هذه الندوات، الثقل المرجح لهذا الطرح أو ذاك ، بالنسبة للمشاهدين المطلوبين للاقتناع. فتكاد ، في ختام هذه الندوات، تخرج بنتيجة واحدة ، هي أن الجميع يتحمس في تعميق الأزمات، ويجفل بعضه من بعض ، عند تصور الحلول. إن الطابع العقيم في هذا الجدال، والذي يعيق إمكانية "ترميم" النفوس المتكسرة، المتحفزة، بفعل تجارب الفاعلين إزاء بعضهم بعضا، له أكثر من مصدر، ليس هذا مقام حصرها، ولكن أهمها قوة الإحباط الهائلة، التي توالت جرعاتها الكريهة، عبر جميع المخاضات السياسية المترجمة في أنظمة عسكرية متلاعنة؛ وكان لها أعظم الأثر، بالمعنى السلبي، على خصوبة المخيلة الوطنية ، المحصنة عادة في أفعال ومعاني النخبة أو ما يسمى بالأينتليجانسيا، المسؤولة عن تخيل البدائل النظرية عن الوقائع السلبية أو الأزمات التي يعيشها المجتمع ، في كليته. وهذه الطاقة السلبية لقوة الإحباط قادت، في النهاية، إلى تحويل " الخضوع" – بالمعنى الشامل للكلمة – من قيمة سلبية إلى قيمة سياسية ومعرفية ، بل إلى "مرجعية ثقافية" ، قوامها أن الانسان لم يعد ينظر إليه من زاوية علمه أو مردوده الرمزي والتاريخي، وإنما من زاوية ما في حوزته من مال ونفوذ على الناس. أما المصدر الثاني المتولد عن الأول، بالنتيجة، فيقضي بأن المال والنفوذ ليس بالإمكان التحصل عليهما في مناخ متحرر ، بل لا بد ، في سبيلهما، من الارتهان ،كليا، للسلطة التنفيذية ، التي "تمتلك" الدولة وما حوى إقليمها من ثروات، والتي ترجع إليها الارادة في توزيع المناصب والثروات ، وسواه من شعب الانتفاع والحظوة على الموالين لها ، وان اتخذ أصحابها مسميات أخرى ملطفة وتلبسوا بأقنعة الاستقلالية والحياد بين فرقاء يتوزع بين أيديهم مصير وطن، منهم من له نفوذ خفي ، ومنهم من يلعب دورا أخفى. 

هنا، يكمن تعقيد الحوار ، الذي يقدم للرأي العام في صورة ندوات وتصريحات تبسيطية ، بينما هو، على الحقيقة، تركيبة من الشبكات الزبونية المتقاطعة والمصالح المتداخلة، القائمة على الخوف المتبادل والتعاطي بالمظاهر الخادعة ، واجهتها ( أي هذه الشبكات والمصالح) سياسية ( انقاذ الدولة \ تنمية البلاد) ، وخلفيتها تكسب بالصراع ..

ذلك ما يفسر انكماش التنظيمات السياسية والاجتماعية العابرة للهويات الفرعية ، وتراجع الخطاب التنويري لإفساح المجال أمام كل ما هو جهوي أو محلي ، وكل ما له صلة بالجزئيات على حساب الكليات، على قاعدة النزاع والتكامل ، في آن معا، على الدولة وضدها، ولو أن ذلك كله يقدم في إطار مواقف وبث شكاوى ومظالم ورهانات .

ولكن ، تبقى قواعد التسلط هي "المشترك والثابت" في هذا الصراع ، الذي يجتهد في إخفاء موضوعه، وهذا ما لا يمكن تفكيك أسسه بإرساء حوار جفول ، يتوسل فيه القوي ، دائما، أدوات الاخضاع في ثوب الاقناع..

محمد الكوري ولد العربي