نفحة ربانية في محبة خير البرية

-A A +A
أربعاء, 2016-11-30 08:58
بقلم الدكتور الشيخ ولد حرمة ولد ببانا

أتلذذ منذ زمن طويل بقراءة قصيدة لابن الفارض رحمه الله في مدح خير البرية صلى الله عليه و سلم. دائما ما تستوقفني منها هذه الأبيات:

كملت محسنه فلو أهدى السنا *** للبدر عند تمامه لم يخسف

وعلى تفنن واصفيه بحسنه *** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

 

ولطالما حثثت قريحتي قدما وقدحت زناد فكري لمعرفة هذه الأوصاف المكنونة واليواقيت المخزونة. ولما لم أفلح في ذلك، وجهت وجهي لعلام الغيوب أن يلهمني من لدنه معرفة بعض منها ويلقنني المفردات النورانية التي تعبر عنها حتى أقول في حقه صلى الله عليه وسلم ما لم يسبقني إليه من الأولين والآخرين أمهر المادحين ولا أصدق المحبين. وإلى أن يستجيب الله دعوتي، أقول وبالله التوفيق:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبي الهدى، وعين الرحمة الفياضة بالأنوار والقيم والمثل والكمال البشري... محمد بن عبد الله، النبي المرسل، حامل أيقونة الوحي السماوي ومبلغ آخر رسالة سماوية إلى البشرية، ناشر الحب والسلام والحياة والأمل والتفاؤل والبشر والخير، الرجل الرمز الذي منَّ الله على البرية ببعثته رحمة مهداة، جعلها شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، فأزال ظلمة الضلال المدلهمة، فإذا همت أفواه الأباطيل بإطفاء نوره أبى الله إلا أن يتمه، حين أشرق به مصباح الهداية، وقد كاد أن يهم بالانطفا، واتضح منهج الحق بعدما اندرس رسمه وعفا، برسالته التي شرح الله بها الصدور وشفا، وانهار بها ركن الباطل بعدما صار من الغواية على شفا، فأكمل الله به المنة على البرية، وأحيى به موؤدات المعارف الإلهية في فترة الجاهلية، وبجهاده ونضاله من أجل البشرية يغرف كل مرتاد من القيم والأخلاق الحميدة الفاضلة الراقية ما يشاء ، غرفا من البحر أو رشفا من الديم.. فصلى الله عليه وزاده تبجيلا وتكريما، كما أمر بذلك فقال صلوا عليه وسلموا تسليما، وعلى عترته الطاهرة الزكية وأصحابه أولي الهداية والأفضلية الذين باعوا له أرواحهم بالجنة وسلموا له تسليما. اللهم شفعه فينا واجعله مقبلا علينا وراض عنا يا كريم.

 

إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، واصطفى عليهم جميعا نبيه وحبيبه ومصطفاه، سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم. فهو صفوة المصطفين الأخيار ونخبة النخب وخيار الخيار، صلى الله عليه صلاة كاملة دائمة، يشارك فيها الأزل الأبد ولا يشاركه فيها من خلق الله أحد، صلاة لا تخبر فتحد ولا تحصر فتعد، صلاة لا تصل صلاة أعلى درجات المقربين لها في الأزل إلى بداية، ولم تزل دائمة الترقي في كل لمحة ولن تزال كذلك فليس لها نهاية.

 

هذا ولا يخفى على أحد أن سيدنا ومولانا ونبينا أبا القاسم محمدا صلى الله عليه وسلم هو في كل وصف جميل أفضل الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين وجميع عباد الله الصالحين وكافة خلق الله أجمعين إفرادا وإجمالا. فلا يمكن، بل لا يجوز مقارنته بشيء من ذلك، إذ لا سبيل إلى معرفة فضائله صلى الله عليه وسلم ومزاياه معرفة تحيط بها من كل الوجوه، ولو اجتمع لذلك كل من سواه، إذ لا يعرف حقيقته وقدره ولا يحيط بفضائله إلا الله. وما زال مهرة العلماء يغوصون في لجج بحور فضائله الزواخر، فيستخرجون منها روائع اللآلي وبدائع الجواهر، فمنهم من نظمها عقودا زين بها جيد الزمان ومنهم من نثرها على بساط البسيطة، فاستغنى بها أهل المعرفة والإيمان.

 

وكونه صلى الله عليه و سلم خير مرسل وخير الخلق على الإطلاق، مما لا يمتري فيه إلا معاند أو كفور. فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم ولا فحر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

 

أما بعد،

في هذا الظرف الرديء، الزمن البالغ السوء بفعل أمم تخطفها الجور، وانصاعت لشهوة الدم، والغدر، والفساد في الأرض.. في البر والبحر والجو، الأمم المتهافتة على احتقار الإرث الإنساني الكبير... في زمن صارت فيه الآلة أفضل عند الإنسان من أخيه، وصارت معدة الإنسان مكان كل إنسان وأنسنة...

 

في هذا الزمن الذي لا نجد فيه أمة واحدة سعيدة، حتى أغنى وأقوى أمم الأرض لا يوجد فيها بيت واحد آمن، ولا عاصمة إلا وترتعد خوفا.. في هذا الزمن الذي ضاعت فيه بعد القدس والأندلس... بغداد، ودمشق، وبيروت وصنعاء، بيد حثالة العقائد الفاسدة المفسدة، العقائد التي أذكتها نار الحقد المجوسي ضد قوم محمد وجوهر رسالته وبيضة دينه..

 

في هذا الزمن نتذكر عظماء الإنسانية، وخاصة أعظم رجالات البشرية على الإطلاق.. كيف لا.. ووضع الكوكب الأرضي مناقض تماما لروح بعثته الخيرة، بعثة الرجل المنقذ لكوكب الإيمان، وفي هذا الظرف الذي تطل علينا فيه ذكرى المولد النبوي الشريف، نتذكر أو يجب أن تكون لنا وقفة مع ذكراه، بل مع توكيد البيعة لمحبته وطاعته ونصرته، كلها فضائل أوجبها الله على المسلمين السابق منهم واللاحق، من الأزل إلى الأبد، وأناط بها صحة إيماننا. والآيات القرآنية الدالة على ذلك كثيرة: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ­­(المحصنات: 65).

{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} (آل عمران: 31).

 

{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} (التوبة: 120).

{فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ألئك هم المفلحون} (الأنفال: 157).

{إلا تنصروه فقد نصره الله} (التوبة: 40).

{ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل هو أذن خير لكم، يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} (التوبة: 61).

{لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور: 63).

{يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} (الحجرات: 1).

 

السلام عليك يا رسول الله...

فداك أبي وأمي.. وإنه لمن سخرية الزمن وقهرية الظرف أن تُستهدف من ديار الدين، فنحنُ في ديار أفرغت من الناسِ إلا من رحم ربك.. وصار للدمى أن تتدبرَ من غير حياء.. فتتطاول على جنابك الأسمى ومقامك الأسنى.. وأنت من أنت عند الله والمؤمنين الذين يستظلون بك من كل قيظ دهريِّ وزعه شيطان أو إنسان..

 

السلام عليك يا حبيبي، ويا قرة عيني، وبردا يخالج حشاي، ويثلج صدري، يا نورا يملأ الأكوانَ، وهديا وسع الدنيا لو علم الإنس والجان، يا رحمة الرحمن، ومنة المنان، يا رسولَ النور والخير والهدي والسعادة والحبور.. يا سيدَ المنبرِ، النذير البشير.. والرسول الأخير..

 

أشهدُ الله أني أحببتك وفضلتك على الوالد والولد.. وأن أمنيتي أن أكون رفيقك في جنة الخلد.

 

كيف أكتبُ عنك يا رسول الله، وقد مدحك وزكاك وبرأك وطهرك ربي عز وجل.. فما عسى عبد الله أن يكتب أو يذكر؟! ولكن إن هي إلا كلماتٌ يعبر بها العبد عما يجيش في صدره من حبّ لعبد الله ورسوله وحجته على الناس..

 

فإذا كتبتُ عنك يا حبيبي صارَ حبري عسلا، وأوراقي زبدة وسكرا مطحونا، وكان الخيرُ، وأنسمَ الحبّ وأزهرَ النفَسُ، وتوردت السعادة...

 

لقد آن لأنساق القرون والأحقاب أن تنصفكَ.. وما أنصفك إلا رب العالمين.. كل حرف عنك يا حبيبي هوّ أنشودة ربانية، تلاحينها نبض القلب وأنفاس المؤمن، وهي تنثرُ الظلّ الحنونَ..

 

يا رسول الله... كيف أصفُ شمائل ما يصل إليها وصفٌ ولا تعبيرٌ، تلك الشمائل التي أحسن صنعها فيك العلي القدير اللطيف الخبير.. كيف وأنا العبد الجاهل الفقير..

 

يا حبيبي يا رسول الله..

إن قلبي تقاسمه الفرح والحزن..

الفرح لأنه ما من مقام أعلى لبشر من قبلك أو بعدك.. والفرح لأني آمنت بك وأنا معذور لضعفي وقلة حيلتي فيما قصرتُ فيه من تتبعِ هديك..

 

والحزنُ... لأن نفوسا صغيرة مهينة ولا تكاد تبين، تتطاول على جنابك العالي، غير عارفة بأنك أنت عين الرحمة الربانية ونور الأكوان المتكونة، صاحب الحق الرباني ، وملاذ البشرية في باذخ الإيمان..

 

يا للدمع العاجز.. ويا للحزنِ العاري من الدمع..!

يا للسيوف التي لا تبترُ غير غمدها، ويا للنخوة التي تسقى كأس المهانة والمذلة... ويا لأمة أنت فيها تهان وعرضك لا يصان..

 

إن عرضي لعرضك يا رسول الله فداءُ..

إنّ عرضي وأبي وأمي - وأزيد بعشيري - لعرضك فداءُ..

ما أزهد الناس في الناس حينَ تنهش عرضك الكلاب ولا تتكسر الحراب في الرقاب، فتضربَ حيث صولة حق، لتنصف حبيب الحق.

 

ما أعظمك يا سيدي وأحقر الناكرين... ما أصدقك وأجبن المفترين.. ما أجملك وأقبح الجاحدين الكافرين..

 

شاهت وجوهٌ تعاف النور، إنها حقول جهنم حيث طبقات الظلام التي لا تزهرُ سوى سمّ الأفاعي والعقاربِ، ولا تحسنُ من الصوت غيرَ نعيق البومِ ووط الخفافيش.. لقد فصلت حناجرهم على الفحيح، النباح، العواء، النهيق، النعيق، وحينَ تختمرُ نفوسهم لؤما تسمعُ لها عرير الصراصير.

 

لله من زمن ينهش فيه عرض محمد في ديار الإسلام..! في بلاد شنقيط ، أرض المنارة و الرباط الطاهرة... أرض العرفان والتقاء والنقاء، أرض محبة ووداد وتوقير ونصرة نبي الهدى محمد بن عبد الله. فوالله.. ما من عبارات ولا كلمات ولا شعر ولا نثر يمكن أن يصل مستوى ما هو مطلوب من إدانة لأبشع جريمة ما كان يمكن أن نتصورها تصدر من هذا البلد. فلا حول ولا قوة إلا بالله، ونُشهد الله أننا نستنكر ونُدين هذا الفعل الشنيع، ونُشهد الله أننا نفدي رسول الله بمهجنا وإنا لمحزونون وغاضبون، لأن الضلال الأسود صار يتجرأُ على الخطوط الحمراء.

 

صلى الله عليك وسلم.. ما كان أعظمَ وأعلى وأثمرَ ما زرعتَ لو كانوا يعلمون.

 

فأنتَ نخيل الروح، وثمرُ النور، وماء الحياة.. أنتَ سلالة الأخلاق وأول ميناء للقرآن..

 

أنتَ النُّور الربانيُّ، الرسولُ الأميُّ، أنتَ السيد الهاشميُّ، أنتَ نجل آمنة، وخريج الشـِّعْبِ، ما بين مكة والمدينة خطوت مسيرة النبض العالي.. فأي وتر يعزفُ لك.. ليتني بين ظهرانيكن يا نساء المدينة بين الثنية والوداع، فأنشد أنشودة بحبر من ماء السماء..

 

أنت الحبيبُ

أبو القاسم، محمد، أحمد، الهادي، المصطفى، المختار، الماحي، المقفّي، الحاشر، العاقب، نبي التوبة والرحمة والمرحمة، والملحمة، حبيب الرحمن.

المختار، الصادق الأمين، إمام المتقين، وسيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين.

أيها: المزمل.. المدثر.. المنذر...الشاهد.. السراج المنير.

أنت الحبيب يا ابن عبد المطلبْ..

أنت الرسول لا كذبْ..

 

كم أنا أشفق وأحزن على بلدي وهو في هذه المحنة يتأرجح بين غضبين: غضب الجبار المنتقم إن لم يحكم بما أنزل الله مما أجمع عليه علماء الأمة في حق المسيء إلى الجناب الشريف، وغضب الغرب الصهيو المسيحي إن هو حكم شرع الله. وشتان ما بين الغضبين.

 

ورحم الله أبو فراس الحمداني حيث يقول:

  فليـتك تحلو والحيـاة مـريـــرة *** وليـتك ترضـى والأنـام غضـاب
  وليـت الذي بيـني وبينـك عامر *** وبـيني وبيـن العــالمين خـراب
  إذا صـح منك الود فـــالكل هيـن *** وكـل الذي فوق الـتراب تـراب
  

ثم إنه {من يتقي الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه".

 والحمد لله أولا وآخرا.