من الزنوجة..إلي الإتحاد الإفريقي..الثقافي والسياسي في المسالة الإفريقية

-A A +A
خميس, 2020-05-28 15:19
 د.أحمدو ولد حبيبي

في سياق مسارات التحرر الإفريقي يستحيل الفصل، نظريَّاً، بين السِّياسي والثَّقافي فـي إدارة الصِّراع  ضد الخطاب الكولونيالي

ومنهـج الاستيعاب" Assimilation" الحضاري. فمنذ بدايات تشكل الوعي السياسي لدي النخب الإفريقية شكلت قضيا التحرر والاستقلال، والهوية، والإندماح، والنهضة، هاجسا شغل تفكير تلك النخب على اختلاف توجهاتها، وخياراتها السياسية والأيديولوجية. وتبنت حركات التحرر لاحقا مفاهيم كبري مثل الهوية القومية، والأمة الإفريقية و الدولة الوطنية.والنهضة الإفريقية الشاملة.

ووجدت حركات التحرر مرجعا لها في حركات أدبية وفكرية وسياسية. تبنت مبكرا مفاهيم  الحرية ، والوعي بالذات والهوية، والاختلاف والغيرية. خاصة في مقابل الآخر الإمبريالي المستعمر. ومن ابرز  الحركات  الأدبية  التي ألهمت حركات التحرر "الزنوجة négritude"التي  شكلت حركة تحرر ثقافي وسياسي. تعبر عن تطلعات السود  للحرية والإعتاق، من المركزية السياسية والثقافية الغربية  الضاغطة التي تنظر{ بدونية للسود} وقدم تيار الزنوجة نفسه باعتباره الطليعة "النضالية" الحاملة لمشعل النزعة القومية للرجل الأسود حسب  تعبير ليوبولد سيدار سنغور أحد مؤسسيي هذا التيار. وكان إيمي سيزير الشاعر المارتينيكي قد صاغ مفهوم "الزنوجة" في مقال نشره في فترة مابين الحربين العالميتين  عبر صفحات مجلة " الطالب الأسود"  التي كانت تنشر في الحي اللاتيني بباريس من طرف مجموعة من طلبة الهند الغربية وإفريقيا المهاجرين في فرنسا. و اعتبر  المؤسسون لتيار الزنوجة أن الوعي بالذات الإفريقية المتفردة والاعتراف بهويتها، وتفردها، هو  الشرط الأساسي لإعادة الاعتبار لأبناء القارة، ورفع مظالم التاريخ وأعباء الذاكرة عنهم، وكان هدف التيار هو الدفاع عن الهوية والترويج للاستقلال السياسي والثقافي،وتجاوز الإستعاب، والهيمنة، والصورة النمطية السلبية التي تسعي المركزية الأوربية إلي فرضها علي الأفارقة.

ولكن هذا المشروع الرومانسي الذي انطلق من قصائد إيمي سيزير، و سيدار سنغور،وكتابات الشيخ أنتا ديوب، وأطروحات الكاميروني  أشيل مبامبي الدَّاعي إلى "مركزيَّة افريقيَّة كونيَّة"، أو ما أسماه "أفريقيا بحجم العالم"سينتهي بنفس السرعة التي بدأبها  عندما لم تجد المبادئ ،والقيم ،والأهداف،  والتصورات، التي صاغتها التيارات والنخب الثقافية والفكرية في بداية مرحلة الوعي السياسي. مكانا لها في أولويات حركات التحرر. ورغم أن تلك الحركات اتسمت في بدايتها بالدينامية السياسية والرغبة الجامحة في الإصلاح، إلا أن نشوة الانتصار والسلطة، والالتباس بين السياسي، والعسكري، والأيديولوجي،  هيمنت علي الانتقال من مرحلة "حركات التحرير" نحو الدولة الوطنية حيث ظهرت التحديات الحقيقية.وبسرعة تخلت حركات التحرر عن "مرجعية التيارات الثقافية" ،وعن  المبادئ الكبرى القائمة علي مفاهيم الوعي بالذات، والهوية،والأمة الإفريقية ،الواحدة والنهضة الشاملة. واعتمدت بدلا من ذالك "شرعية الكفاح" التي منحت الأولوية في كل شيئي لقادة أحزاب وحركات التحرير. ورغم الامتيازات التي حصلت عليها لم تلبث حركات التحرر  أن دخلت في صراعات مسلحة علي السلطة، قادت إلي تفشي العنف،وأجهضت حلم النهضة، وألقت مفاهيم الهوية والدولة الوطنية ، إلي ما وراء طموحات قادة حركات التحرير في معظم الدول الإفريقية ومع مرور الزمن "أصبح ارث النضال بمثابة "لعنة" علي حد تعبير  إبدو ماندازا مؤرخ حركات التحرير في إفريقيا .

لعنة "ارث النضال" هذه سترافق كل مشاريع التحديث والنهوض الإفريقية. وستكون سببا في تأجيل كل مشاريع التنمية في فترة ما بعد الاستقلال. ومع ذالك ظل تأثير التيارات الفكرية، والثقافية التاريخية حاضرا بل و موجها لكل المنطلقات، والتوجهات الوحدوية الإفريقية، التي تدور حول محاولات البحث عن الهوية الجامعة. وتكريس الوعي بالذات والشخصية الإفريقية. وشكلت تلك التيارات الإطار الثقافي، الذي يمكن من خلاله تفسير التحولات الاجتماعية، والسياسية، القارية. بل إن الهوية الذاتية التي سعت كافة الجماعات، والتيارات الثقافية الإفريقية ،لتأكيدها أصبحت الأداة المعيارية لتحديد من هو الإفريقي؟ وأستمر أنصار وإتباع التيارات الفكرية يوجهون مسارات تطور الأحداث في إفريقيا،بدأ ذالك مع مؤتمر الجامعة الإفريقية في مانشستر.1945 حين ظهرت الدعوات الأولي للاستقلال. وظل مستمرا في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية سنة 1963. وسيستمر تأثير المرجعيات الثقافية الإفريقية، بمختلف تياراتها في التوجهات السياسية للقارة في بداية الألفية الثالثة، عند الحديث عن أهداف التنمية المستدامة، و مرحلة الانتقال من منظمة الوحدة الإفريقية إلي الإتحاد الإفريقي.

منذ تأسيس الاتحاد الإفريقي "يوليو 2002" علي أنقاض منظمة الوحدة الإفريقية، و القارة  تسعي  لوضع الإستراتيجيات، والآليات السياسية، والاقتصادية، والثقافية، التي تحقق لها كامل الاستقلال، وتمكنها من تحقيق أهداف التنمية البشرية المستدامة،وتشكل. أجندة الاتحاد الإفريقي 2063 الآلية العملية التي تبنتها إفريقيا  لتحقيق الأهداف الإستراتجية للقارة. وتؤكد الأجندة علي الاعتماد المتبادل بين دول القارة، وتوفير الظروف للتحولات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، التي ستشهدها القارة خلال الأربعين سنة المقبلة. وتؤكد علي حيوية خلق بنية افريقية لنهضة الشاملة. وفي عودة إلي المرجعيات المؤسسة للفكر التحرري الإفريقي يظهر تبني أجندة 2063 لنفس الأطر الثقافية والفكرية ،التاريخية التي انطلقت مع تيار الزنوجة، حيث تم التأكيد في هذه الأجندة علي حيوية  الوعي بالإرث التاريخي،وعلي تقدير كل التيارات الفكرية والثقافية التي دعت إلي وحدة القارة. واعتمدت الأجندة  نفس الرؤية التاريخية  لتيار الزنوجة { إفريقيا متصالحة مع ذاتها،مزدهرة وتنعم بالسلام.يتحكم فيها أبناؤها وتمثل قوة بحجم العالم} ومن أهم تطلعات أجندة 2063 بناء قارة متحدة ومتكاملة سياسيا، ومعتمد علي المثل العليا للوحدة الإفريقية بهدف تحيق النهضة الشامة.وتؤكد الأجندة علي ضرورة العمل علي استكمال مسارات التحرر الوطني، والوحدة القارية، وتكريس الهوية الجامعة، وبناء السلم والاستقرار، و نشر قيم الديمقراطية والحكم الرشيد.وتحكم أبناء القارة في مصيرها.ومن أهم أهداف أجندة الإتحاد الإفريقي أن يكون لإفريقيا مكانتها ودورها ككيان موحد علي الصعيد العالمي.

مرجعيات أجندة الإتحاد الإفريقي 2063  تؤكد استمرار تجدد التاريخي الثقافي في الذهنية الجماعية، كما تؤكد الأجندة أن قضايا الذات المتفردة، والهوية الجامعة ، والاستقلال والنهضة الشاملة، وإفريقيا بحجم العالم، مازلت تشغل العقل السياسي والثقافي الإفريقي.

 ويعتبر استلهام القيم الكبرى التي دافعت عنها التيارات الثقافية الإفريقية منذ بداية القرن الماضي، في تفاصيل أهداف ومبادئ الاتحاد الافريقيى استمرارا لشرعية تاريخية، يعتقد الأفارقة إلي اليوم أنها عبرت عن كثير من أحلامهم، وطموحاتهم، وعكست القيم المشتركة التي يؤمنون بها، ويسعون لتمثلها في مجتمعاتهم  الحديثة.

ورغم إقرار الأجندة بقيم التنوع الثقافي،وسعي الأفارقة إلي إثراء التبادل المعرفي والحضاري مع بقية الشعوب،إلا أن التركيز علي الخصوصيات الثقافية،والرغبة في إحياء روح الأمة الإفريقية، والتأكيد علي مبدأ الاستثناء الثقافي  في مواجهة قيم العولمة.كل ذالك يؤكد أن "الثقافي" مازال عاملا مؤثرا في الخيارات السياسية والتنموية التي تتبناها النخب الإفريقية إلي اليوم.

ومع أن الأولوية في الفكر السياسي الإفريقي المعاصر، تبقي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما ظهر جليا في معظم بنود أجندة الاتحاد الأفريقي 2063 ، عبر تأكيد  دول القارة علي تضافر جهودها للقضاء على الفقر، وتحقيق أهداف التنمية  المستدامة. و تكثيف مظاهر التحول الاجتماعي، والاقتصادي داخل القارة، و تطوير البنية التحتية، وتنمية بالموارد البشرية والمادية للقارة، وتثمين المقدرات المحلية، ومنح دور ريادي للشباب والنساء في عملية التحول المجتمعي.إلا أن مرجعية  عملية التحول المنشود في المستويات السياسية عبر إقرار الاستمرار في استكمال مسار تحرر القارة. وتبني قيم الديمقراطية والحكم الرشيد،و في المستوي الاقتصادي عبر استعادة القارة لمواردها المنهوبة.و تحديث أساليب استغلال مقدراتها التنموية ، وفي التحول المجتمعي من خلال تطلعات الأفارقة للخروج من هيمنة المركزية الغربية، والاحتفاء بالهوية الإفريقية المتفردة،و إقرار المساواة بين الجنسين، وإطلاق الروح الخلاقة والمبدعة للإنسان الإفريقي. تبقي مرجعية  كل ذالك ثقافية ،وجدت بذورها الأولي في القصائد، والكتابات الإبداعية لمؤسسي تيار "الزنوجة " الذي ظهر مع  بداية القرن الماضي، وما تزال تأثيراته مستمرة في الحياة الإفريقية إلي اليوم.

ومع أن أجندة  2063 تتضمن الكثير من الأهداف المرحلية والإستراتجية، وتحمل الكثير من الأحلام والتطلعات المتفائلة،التي تم تبنيها تاريخيا من كل تيارات التحرر الإفريقي. وتعود الآن مستلهمة من القادة السياسيين المعاصرين.يبقي الإشكال في الكائن و المأمول والممكن. وهو ما يطرح السؤال كيف يمكن للقارة تحقيق الأهداف والبرامج الواردة في الأجندة؟ ومن أين ستوفر الموارد البشرية والمالية الضرورية لتنفيذ ها؟ وهل ستعود القارة لاستجداء المستعمر القديم لتمويل إستراتجية نهضتها الشاملة المؤجلة؟ وهو ما سيعيدها إلي المربع الأول ، مربع الهيمنة، والتبعية، والإستعاب الحضاري. وهو ما ناطحته كل التيارات الثقافية، والفكرية التي آمنت بان الخروج من المركزية السياسية، والثقافية ، والهيمنة الاقتصادية الغربية.  هو المنطلق الأول نحو خروج القارة  من مسار الإستعاب الحضاري،  وتحقيق الاستقلال الكامل.