الثامن والعشرون نوفمبر 1960 كما عشته / الأستاذ محمدٌ ولد إشدو

-A A +A
اثنين, 2014-12-01 13:56

بدأت تباشير هذا اليوم في خيمة غير عادية في عرف البدو يومئذ: جدرانها أسمنت، وسقفها وستائرها حرير أخضر وأصفر زاه؛ يَرْفَع قواعدَها، في واد غير ذي زرع {رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}:

المختار ولد داداه، سيد المختار انجاي، جاجا صنب جوم، سيدي محمد الديين، حمود ولد أحمدو.. وغيرهم. كانوا بسطاء جدا ومحدودي الثقافة والوعي والوسائل إذا ما قورنوا بنا اليوم، ولكنهم كانوا يعيشون في عصرهم ويمثلون طليعة مجتمعهم.

ففي الدقائق الأولى من صباح ذلك اليوم الأغر، أعلن رئيسا وزراء موريتانيا (المختار ولد داداه) وفرنسا (ميشل دوبري) ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ وذلك في حفل بهيج شهوده أوروبيون وأفارقة ما عدا ضيفين كريمين جسدا الحضور العربي والآسيوي هما محمد المصمودي وزير خارجية تونس (الدولة العربية الوحيدة التي اعترفت بموريتانيا) وآغا خان رئيس الطائفة الإسماعيلية من باكستان ومفوض أممي.

لم يكن طريق الدولة الفتية مفروشا بالورود، ولم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب؛ بل واجهها أهلها (في الداخل والخارج) بالنكران والوأد، كعادتهم في جاهليتهم "إذا بشر أحدهم بالأنثى"! زعم بعضهم أنها لا تملك أسباب الحياة فدعوا للبقاء في كنف فرنسا. وقال آخرون من نفس المنطلق بالانضمام إلى الاتحاد المالي (اتحاد سنغال ومالي). وقال بعض آخر بالثورة تارة، دون توفر أشراطها، وبالضم إلى المغرب تارة أخرى.. ثم ما لبثوا أن أعلنوا عليها الحرب وحاولوا قتلها. وهذه بعض التفاصيل:

ـ بعض أركان حزب التجمع الحاكم وبعض الزعامات التقليدية عارضوا الاستقلال وتشبثوا بالبقاء تحت فرنسا.

ـ المعارضة بمختلف أطيافها: رابطة الشباب، حزب النهضة الوطنية، قيادات في حزب الوئام.. الخ، عارضت الاستقلال وشككت فيه، واعتبرته مؤامرة استعمارية، واعتبرت القائمين عليه عملاء.

ـ أما دعاة الانضمام إلى المغرب كالزعيم أحمدو ولد حرمة والدي ولد سيد بابه وبعض قادة حزب النهضة، فقد دعوا إلى الجهاد، وساند بعضهم عملية "تغل" وقاد بعض ونظم عمليات الاغتيال التي عمت بعض المدن الموريتانية، وكانت تجري تحت إشراف هيئة أركان من ثلاثة هم الملك وزعيمان موريتانيان.

ورغم ذلك كله، فقد استطاعت الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ بفضل الله، وبحكمة وصبر وتصميم وإيمان قادتها، وبإرادة شعبها، رفع التحدي وكسب الرهان: دولة مستقلة تجمع مكونات وأعراق أرض البيظان وتأخذ بيدها إلى النور والحضارة والرقي، وتبني عاصمة عصرية في الصحراء، وتحقق الأمن والأمان والتواصل في جميع ربوعها، وتنتمي إلى هيئة الأمم المتحدة، وتشترك في تأسيس الوحدة الإفريقية، وتنضم بعد الجفاء والإقصاء إلى الجامعة العربية، وترسي قواعد حداثة كان من أهم خصائصها بعد مسيرة شاقة وطويلة:

- التقشف واحترام المال العام.

- الفصل بين السلطة والمال.

- السيادة الوطنية وحرية القرار.

- إرساء وتوطيد الدولة في مواجهة الكيانات التقليدية المفككة التراتبية.

- وضع أسس اقتصاد وطني واعد قاعدته الانفصال عن قاطرة الاستعمار الجديد وإنشاء عملة وطنية وتأميم صناعة استخراج المناجم والبنوكَ، وربط شرق البلاد الذي كان معزولا بغربها بواسطة طريق الأمل، وبناء ميناء حديث على المحيط بدل التبعية لميناء داكار، وتنمية الصيد والزراعة وتربية المواشي.

- دعم المواد الأساسية (سونمكس) والطبية (فارماريم) واعتماد خطة تدخل لمكافحة آثار الجفاف، وتقسيم القطع الأرضية مجانا على أحياء الصفيح (المقاطعة الأولى والخامسة والسادسة).

- تبنيّ ميثاق وطني تحرري يوسع الديمقراطية، وينبذ استغلال الإنسان للإنسان (العبودية).

ومن أبرز المحطات التي ميزت فصول هذا المسار لمن جهله: مخاض الاستقلال ونشوء الدولة، صراع التعريب وجَلْي الهوية، الثورة الثقافية ووأد الفتنة العنصرية، الحركة الوطنية الديمقراطية وملحمة تصفية الاستعمار الجديد، مصيدة الصحراء المشؤومة ومؤامرة "الحلقة الضعيفة" الرعناء. وسنتناولها تباعا بشيء من التفصيل.