تم نشر هذا المقال بتاريخ 05 نوفمبر 2013 ، نعيد نشره بمناسبة الذكرى ال54 لتأسيس الجيش الموريتاني / لا يزال السؤال حول طبيعة العلاقة بين المدني والعسكري في موريتانيا مطروحًا منذ أول انقلاب عسكري فيها. وإضافة لتكريس الجيش القطبية الاجتماعية؛ فقد وجدت القوى والمجموعات القبلية في المؤسسة العسكرية بوابة وظيفية بالغة الأهمية لحضورها ضمن المشهد العسكري والسياسي. وقد وضعت سلسلة الانقلابات التي طوقت عنق المسار السياسي في موريتانيا منذ عام 1978 الجيش في مرمى نيران الحركات السياسية. وإذا كان الجيش قد زاحم القوى المدنية في إدارة الشأن السياسي، فإنه في المقابل قد وجد سندًا مدنيًا في كل فترة يقرر فيها سحب الثقة من النظام القائم. وتمثل الانتخابات المرتقبة في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 مؤشرًا لتدخل الجيش وتحكمه في السياسة. وقد أخذت هذه المؤشرات مسارين أساسيين: مسار الترشيح والتنسيق داخل أنصار الأغلبية، ومسار التأثير على لائحة المصوتين.
ولا يلوح في الأفق أن علاقة الجيش بالسياسة ستنقطع قريبًا؛ وذلك في ظل عوامل أساسية أهمها ضعف النخبة السياسية وتوزعها إلى جهات متناقضة ومتحاربة في أحيان كثيرة، وعجز القوى المدنية عن إنجاز حكامة سياسية ناجعة. كما يبدو عسيرًا ابتعاد العسكر عن السياسة في المستقبل المنظور؛ حيث توزع المؤسسة العسكرية أصابعها بين زناد البنادق وألوية الحملات السياسية.
لا يزال السؤال حول طبيعة العلاقة بين المدني والعسكري في موريتانيا مطروحًا منذ أمد. وقد اتخذ من يوم 10 يوليو/تموز 1978 -تاريخ أول انقلاب عسكري في موريتانيا- منطلقه الزمني ليكون بذلك السؤال المركزي في حاضر السياسة الموريتانية ومستقبلها.
سياق النشأة
تأخرت نشأة الجيش الموريتاني قليلاً عن الاستقلال، لتبدأ فعليًا النواة الأولى في السنة الأولى بعد الاستقلال سنة 1961؛ حيث تولى تأسيسه وزير الدفاع السابق محمد ولد الشيخ، القادم من حقل التعليم الأساسي، محاطًا بنخبة من المعلمين الذين تقرر تحويلهم لاحقًا للجيش، مثل محمد المصطفى ولد السالك وفياه ولد المعيوف ومبارك ولد بونا مختار.
وأبرز ملاحظة حول نشأة الجيش الموريتاني، شقيق الدولة ورفيق البناء الوطني، أنه لم يكن امتدادًا لبنيتين اجتماعيتين مثّلتا الجناح العسكري للمجتمع الموريتاني وللاستعمار الفرنسي؛ فلا هو امتداد للمقاومة وروحها الثورية، ولا هو استمرار لمؤسسة أعوان الأمن التابعين للمستعمر الفرنسي "كوميات" بما تعنيه من قسوة وعمالة للمستعمر.
كرّس الجيش الموريتاني الوليد القطبية الاجتماعية المعهودة؛ حيث ظلت قوى الزوايا -وهي المجموعات القبلية المشتغلة تاريخيًا بالثقافة ومعارف الشريعة الإسلامية- في السلطة والتي تنفر بشكل كبير من الجيش نفورها الطبيعي من حمل السلاح، لتجد مجموعات قبائل حسان وهي القبائل المسلحة التي بنت تاريخها على أمجاد الحرب والصراع العسكري والمجموعات الزنجية في المؤسسة العسكرية الجديدة بوابة وظيفية بالغة الأهمية.
البنية والتشكيلات
يرتفع مؤشر تطوير بنية المؤسسة العسكرية والأمنية في موريتانيا بشكل متزايد، ومن حيث العدد يمكن الحديث عن حوالي 30 ألف عسكري موزعين على النحو التالي:
- الدرك الوطني، وعدد أفراده حوالي 4500 فرد.
- الحرس الوطني، ويزيد عدد أفراده على 3 آلاف فرد.
- الشرطة الوطنية، وعددها 4400 عنصر.
- أما الجيش الوطني فيُعتبر العمودَ الفقري لهذه القوى، فهو الأحسن تدريبًا، والأكثر عتادًا وعددًا، والأوسع نفوذًا. ويبلغ تعداده ستة عشر ألفًا وخمسمائة فرد حسب بعض التقديرات، وينقص قليلاً عن ذلك حسب مصادر أخرى؛ حيث يبلغ 15870 فردًا حسب إحصائيات أميركية نشرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عن موازين القوى العسكرية (IISS militari balances) سنة 2007.(1)
وفي هذا السياق تعتبر السفيرة الأميركية الحالية في موريتانيا أن الجيش الموريتاني -رغم قلة عدده- يعتبر جيشًا مهمًا في المنطقة من حيث الجاهزية والتسليح.(2)
ويمكن القول: إن مسار تسليح الجيش الوطني ارتفع منذ عام 2005، ونتيجة للأوضاع المضطربة في المنطقة؛ فقد استفاد من مساعدات ذات طابع تسليحي من قبل حلف الشمال الأطلسي وكذا الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.
ويتوزع الجيش الموريتاني -وفق تشكيلته الجديدة- إلى ثلاثة ألوية كبرى؛ وهي اللواء البري واللواء البحري والطيران العسكري. وتتوزع داخل هذه الأولوية عدة مؤسسات عسكرية ووحدات قتالية إضافة إلى مؤسسات تعليمية وأخرى ذات طابع خدمي ومهني.
الانقلابات كتعبير عن ممارسة السلطة
ينص الدستور الموريتاني والقوانين المنبثقة عنه على أن رئيس الجمهورية المنتخب هو القائد الأعلى للجيش والرئيس الأعلى للقضاء، وأنَّ الجيش حامٍ للأمن والحدود. وهذا بخلاف الممارسة الفعلية حيث اعتاد الجيش منذ عقود على تجاوز مجاله العسكري لينغمس في الحياة السياسية، مربكًا المشهد السياسي؛ حيث مثّلت الانقلابات العسكرية الطريق الأكثر سرعة إلى القصر الرئاسي.
ويجدر التنبيه إلى أن استخدام العنف للوصول إلى السلطة تقليد موريتاني أصيل حتى قبل نشوء الدولة المدنية وقيام الجيش، فقد ظل العنف والقتل الوسيلة الأكثر ضمانًا للوصول إلى السلطة أو استعادتها. وقد حملت الانقلابات العسكرية قديمًا اسم "الغدرة"، وتعني التخلص من الأمير بقتله غيلة.(3)
يضاف إلى ذلك العامل أسبابٌ أخرى أبرزها غياب الخلفية العسكرية لقادة الانقلاب الأول، فهم في الغالب مجموعة من المعلمين نُقلوا إلى المؤسسة العسكرية الوليدة، وحملوا إليها رواسب أفكارهم التقليدية وانتماءاتهم الاجتماعية والجهوية. وكذلك مرونة الرئيس السابق المختار ولد داداه وتعامله بمستوى كبير من الثقة مع أركان نظامه المتصارعة، إضافة إلى الأزمة السياسية المتفاقمة، وظروف حرب الصحراء 1975-1978 التي أنهكت البلد ودفعت بالجيش إلى الوحل، وأرغمته على الانقضاض على من ورطه في الحرب.
أسس الانقلاب الأول لوصاية الجيش على السلطة، وبشكل صريح ومغلف بمرجعية الجيش؛ حيث خاطب قائد الانقلاب رئيسه المختار ولد داداه قائلاً: "سيدي الرئيس لقد نزع منكم الجيش ثقته".
سلسلة الانقلابات
طوقت سلسلة الانقلابات عنق المسار السياسي في موريتانيا منذ العام 1978 عندما نفّذ العقيد المصطفى ولد محمد السالك أول انقلاب عسكري اعتبره "مسيرة ضرورية فالنظام أصبح عاجزًا، والأمن غير موجود، ومعظم السكان قد نزحوا إلى خارج المدن أو إلى الحدود"(4)
ولقد كان ذلك الانقلاب تعبيرًا عن :
- غضب عارم لضباط مجموعة الشرق الموريتاني التي ينتمي إليها ولد محمد السالك قائد الانقلاب، ضد ما يعتبرونه تهميشًا من الأقلية المنتمية إلى الجنوب التي على رأسها المختار ولد داداه الرئيس المطاح به.
- بروز اتجاه قومي عروبي جديد بدأ يختبر حظه في الساحة السياسية والفكرية بعد أن استطاع اختراق الجيش.(5)
- ردة فعل من النخبة العسكرية من قبائل الشوكة (حسان)، حيث كان أغلب أعضاء اللجنة العسكرية للإنقاذ الوطني من هذه الفئة، على تحكم الزوايا ومن هذه الطبقة ينحدر الرئيس ولد داداه.
- خيار عسكري غير مكترث بقيم التحرر، وسعي النظام إلى المساواة الاجتماعية، وتقليص الفوارق وتحديث المجتمع.
- جزء من التأثير الدولي على القرار السياسي والأمني في موريتانيا؛ حيث تؤكد تقارير ومذكرات أن الجزائر وجبهة البوليساريو كانتا أهم داعم لهذا الانقلاب.
تواصل مسار الانقلاب حيث كان زعيم الانقلاب العسكري محمد المصطفى ولد السالك على موعد مع إزاحة قسرية جديدة، يوم 3 يوليو/تموز 1979، بعد عام واحد من توليه سدة الحكم؛ حيث أرغمه رفاقه على ترك السلطة لخلفه العقيد محمد محمود ولد أحمد لولي، ولم يستقر المقام طويلاً بولد أحمد لولي ليترك مكانه للرئيس الموالي محمد خونه ولد هيداله(6) الذي أحكم بدروه قبضته على البلد وأزاح رئيس اللجنة العسكرية للإنقاذ العقيد محمد محمود ولد أحمد لولي لتبدأ المرحلة الأكثر ثباتًا وقمعًا في تاريخ العسكر.
وقد وصل الضابط معاوية ولد سيدي أحمد الطايع للحكم بعد الانقلاب على رئيسه ولد هيداله في شهر ديسمبر/كانون الأول 1984، وكان انقلابه ائتلافًا لعوامل داخلية وخارجية، أهمها:
- الموقف الفرنسي والمغربي من ولد هيداله المحسوب اجتماعيًا وسياسيًا على جبهة البوليساريو، وتوجس البلدين من علاقات ولد هيدالة القوية بالجزائر فضلاً عن توجهاته المعادية لمؤسسات النقد الدولية التي لا تروق لبعض الدوائر المالية الغربية.
- حالة الاحتقان التي أحدثها بالاعتقالات الفجة ضد القوميين العرب والزج بهم في السجون ومواجهة خصومه السياسيين والعسكريين.
- تفاقم المعارضة الداخلية والخارجية له، وعجزه عن إدارة البلاد بشكل توافقي.
استلم ولد الطايع الحكم وعمل على إنهاك المؤسسة العسكرية ماليًا وتقنيًا؛ حيث ظلت رواتب الضباط وكبار المسؤولين ضعيفة، وقدرات الجيش العسكرية ومساره التسليحي فقيرًا.
وتضخمت مؤسسة الأمن السياسي والاستخبارات لبناء جناحي الترغيب والترهيب وتفكيك القوى السياسية والاجتماعية المناوئة.
وانتهى أمر الرئيس ولد الطايع عندما قرر قادة الجيش ممارسة هوايتهم التقليدية في الإطاحة بالرأس المزعج. وكان الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز - كما أظهرت الأيام ذلك- الرجل القوي والمركزي في انقلاب 3 أغسطس/آب 2005.
ولئن حملت الواجهة مدير الأمن العام العقيد اعل ولد محمد فال إلى الحكم لمدة سنتين، أدار خلالها انتقالاً ديمقراطيًا صنعت من خلاله موريتانيا الاستثناء الديمقراطي في العالم العربي، وتسلم الرئيس المدني سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الحكم في انتخابات نالت رضا العالم، واعتراف المنافس أحمد ولد داداه. وإن لم يغب الجيش عنها ترشيحًا ودعمًا ورعاية؛ فإن الرجل القوي أطل برأسه وبشكل عاصف في منتصف 2008، ليضع الجنرالات في 6 أغسطس/آب 2008 حدًا لحكم الرئيس الضعيف سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله بعد تفاقم الخلاف بين الطرفين، وبعد أن نفّذ ولد الشيخ عبد الله قرار إقالة قادة الجيش.
في مرمى نيران الحركات السياسية
وجد الجيش الموريتاني نفسه في مرمى نيران الحركات السياسية، وكانت حركة القوميين العرب أولى القوى السياسية التي استطاعت اختراق المؤسسة العسكرية، وتؤكد وثائق حزب البعث العربي في موريتانيا أنه كان الداعم الأساسي للانقلاب عام 1978 والإطاحة بنظام الرئيس المختار ولد داداه.(7)
وقد توطد حضور التيار البعثي في موريتانيا(8) -رغم كل الضربات القوية والاعتقالات داخل الجيش- حيث شهدت الفترة ما بين 1982-1990(9) أوج الحراك البعثي في مستوياته المختلفة بما فيها القطاع الأمني، حيث كان القائد عبد القادر ولد الناجي ومحمد سعيد ولد الحسين، أهم قادة الجناح البعثي في الجيش.(10)
أما القوميون الزنوج، فقد كان حضورهم داخل الجيش قويًا جدًا، ووظفت حركة قوات التحرير الإفريقية في موريتانيا "أفلام"(11) الزنجية عشرات الضباط والجنود ضمن تنظيمها العسكري المؤمن بضرورة إعادة التشكيل السياسي والسلطوي تبعًا لمسار جديد يأخذ في الحسبان أحقية الزنوج بالأرض والتمييز الإيجابي في السلطة، وفي أسوأ الأحوال السعي إلى الانفصال.
وقد واجهت حركة (أفلام) بمطالبها الثورية أو العنصرية وفق تفسيرات المتابعين حملة تصفية قوية؛ حيث أُعدم قادتها أو سجنوا.
وفيما كان القوميون العرب والزنوج أبرز القوى السياسية التي دخلت الجيش وأثّرت في مساره وطبعت زمنه السياسي بكثير من الاضطراب، فإن القوى السياسية الأخرى لم تكن بمنأى عن استهداف الجيش والتقارب مع الضباط.
وتحمل الذاكرة السياسية للعسكر تحالف تيار الميثاقيين(12) ممثلين في المصطفى ولد اعبيد الرحمن ومحمد عبد الرحمن ولد أمين مع القادة العسكريين الغاضبين ليؤسس "التحالف من أجل موريتانيا ديمقراطية" الذي حمل لواء مقاومة الرئيس السابق ولد هيدالة، ونفذ محاولة انقلابية فاشلة في 16مارس/آذار 1981 والتي راح ضحيتها قادة الجناح العسكري للتحالف.
وفي نفس الصدد يمكن الحديث عن تحالف قوي بين الإسلاميين وتنظيم حركة فرسان التغيير العسكري، سعيًا إلى الإطاحة بالرئيس السابق ولد الطايع. وقد كانت سنوات 2003-2005 مسرحًا لهذا التحالف الذي استطاع هز الجسد السياسي والعسكري للنظام دون أن يسقطه بشكل كامل.
مدنيون برتب عسكرية.. الكتائب المدنية
إذا كان الجيش الموريتاني قد زاحم القوى المدنية في إدارة الشأن السياسي فإنه في المقابل قد وجد سندًا مدنيًا في كل فترة يقرر فيها ضابط عسكري "سحب الثقة" من النظام القائم. ولا يزال محامو العسكر ينشطون بقوة في الواجهة السياسية ينظرون لأحقية الجيش بممارسة السلطة لأنه القوة الأكثر تنظيمًا.
وقد أظهر انقلاب عام 2008 الدور الأساسي لمكونات مدنية في ترسيخ الانقلابات العسكرية؛ حيث دافع غالبية نواب الشعب المنتخبين مدنيًا عن النظام العسكري وعن أحقية الجيش بالحكم باعتباره المؤسسة الأكثر تنظيمًا وتماسكًا ووطنية،(13) وقد حمل هؤلاء لاحقًا اسم الكتيبة البرلمانية أو الأغلبية الأوتوماتيكية وفق تعبيرات قادة المعارضة.
رصاص في صناديق الاقتراع
يمكن اعتبار الانتخابات المرتقبة في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 أهم مؤشرات تدخل الجيش وتحكمه في السياسة، وقد أخذت هذه المؤشرات مسارين أساسيين:
1- مسار الترشيح والتنسيق داخل أنصار الأغلبية: حيث نشط كبار قادة الجيش في التعبئة السياسية واختيار الأسماء المقربة منهم، إضافة إلى المحادثة المباشرة مع المجموعات القبلية بهدف تنسيق الدعم السياسي للحزب الحاكم.(14) قد بات من المعروف أن أعضاء البرلمان المرتقب من الأغلبية سيتوزعون على مجموعة ضغط محسوبة على الجنرالات وكبار قادة الجيش والمؤسسات الأمنية.
2- مسار التأثير على لائحة المصوتين، وذلك بنقل كتائب عسكرية للتصويت في المناطق التي لا يتمتع الحزب الحاكم فيها بحضور يمكّن من الحسم؛ حيث من المنتظر أن يصوت آلاف العسكريين في مقاطعة لكصر بنواكشوط وبلديات ألاك وكرمسين وودان في مناطق الداخل الموريتاني وفق المتداول إعلاميًا.(15)
وقد كان من أبرز أسباب فشل الحوار الأخير بين الأغلبية الحاكمة ومنسقية المعارضة، رفض الحكومة لطلب المعارضة بث إعلان للشعب يتعهد خلاله قادة الجيش وكبار الضباط بالحياد والوقوف على مكانة واحدة من كل القوى السياسية.(16)
ومهما يكن فإن رؤية المؤسسة العسكرية للسياسة في موريتانيا تعتمد مسارين:
- إقامة أحلاف سياسية تابعة لقادة الجيش، وذلك لضمان المكانة والتأثير داخل المؤسسة العسكرية من جهة؛ فقد أثبت تاريخ المؤسسة العسكرية في موريتانيا أن الضباط المهنيين الأقل حضورًا في تفاصيل الشأن السياسي هم الأقل حظًا أيضًا في الترقية والثراء.
- توفير سند رسمي يحمي هيبة الدولة وسيادتها ويساعد النظام الحاكم على ترسيخ نفوذه وتوسيع دائرة أنصاره.
ضريبة تسييس الجيش
تدفع موريتانيا ضريبة باهظة لتسييس الجيش، ولعل أبرز ملامح تلك الضريبة هي:
1- ارتباك مسار التنمية الذي يتطلب الاستقرار. وهو ما لا توفره أجواء الانقلابات والتنافس بين الضباط الطامحين، إضافة إلى غياب خطط استراتيجية للتنمية يديرها خبراء أكفاء.
2- استنزاف طاقات الجيش؛ حيث أفقدت الانقلابات العسكرية وعمليات التصفية، المؤسسة العسكرية المئات من أبنائها إما عبر القتل أو الفصل التعسفي.
3- ضرب التراتبية العسكرية وذلك عبر المكافآت والترقيات غير المعيارية التي ينالها الضباط الانقلابيون ومقربوهم مما يزيد من الخلافات والأحقاد الداخلية في المؤسسة العسكرية.
4- الاهتمام الدولي بالجيش ليصبح بذلك عنصرًا مهمًا في المعادلة الإقليمية، ولقد كان لفرنسا بشكل خاص دور أساسي في تنفيذ وترتيب الانقلابات العسكرية في موريتانيا، وهو نفس الدور الذي مارسه المغرب والجزائر والسنغال بأدوار أقل محورية.
5- الفساد المالي وتداخل العلاقات بين المدني والسياسي، وتحول العسكري إلى مستثمر خصوصي ينافس المواطنين.(17)
6- تراجع المكانة السياسية لموريتانيا والانكفاء على الشأن الداخلي الذي يضيف مع كل انقلاب حلقة تعقيد جديد.
الجيش باق في قلب السياسة
رغم كل السلبيات السابقة فلا يلوح في الأفق لحد الآن أن علاقة الجيش بالسياسة ستنقطع قريبًا وذلك في ظل عوامل أساسية، أهمها:
- ضعف النخبة السياسية وتوزعها إلى جهات متناقضة ومتحاربة في أحيان كثيرة، وعجز القوى المدنية عن إنجاز حكامة سياسية ناجعة وإدارة خلافاتها بما يجنّب البلد مزالق التدخل العسكري.
ومنذ أول انقلاب عسكري في موريتانيا اصطفت القوى السياسية على جانبي الطريق العسكري حيث تقدم الموالاة نفسها حراسًا مدنيين للثكنة العسكرية، وتشحذ المعارضة قوتها السياسية لتوفير الجو لانقلاب جديد.
- عمق التسييس داخل المؤسسة العسكرية لدرجة لا يمكن الحديث فيها عن جيش مدني ومؤسسة عسكرية مقلمة الأظافر في الوقت الحالي، فلكل جنرال من الجيش جناحه المدني المحسوب عليه ولكل قبيلة جناحها العسكري وأبناؤها البررة.
- يمكن الجزم بأن القوى الدولية المهتمة بموريتانيا ستظل مهتمة بالجيش الوطني باعتباره الضامن الأساسي لتحقيق المصالح، وباعتباره الحارس الأول لباقي المؤسسات المدنية والقطاعات الاقتصادية.
خاتمة
تتغير ملامح الخريطة السياسية في موريتانيا تمامًا كما تتغير أمواج الرمال المتحركة، ويبدو عسيرًا ابتعاد العسكر عن السياسة في المستقبل المنظور؛ حيث توزع المؤسسة العسكرية أصابعها بين زناد البنادق وألوية الحملات السياسية. وفي ظل ضعف أداء المشهد الحزبي بمكوناته المختلفة سواء أكانت موالية للنظام أو معارضة له، وفي ظل عجزها عن تأسيس ثقافة سياسية لها خطابها الحاضر وتقاليدها الراسخة فإن المؤسسة العسكرية ستظل حاضرة بفاعلية في الشأن السياسي الموريتاني.
_________________________
* محمد سالم ولد محمد، كاتب وصحفي موريتاني.