الكراهية.. الخطاب البائس

-A A +A
جمعة, 2019-01-04 21:24

لا علاقة على الإطلاق بين ما نسمعه ونشاهده من إشاعة خطاب الكراهية فيمكونات المجتمع، وبين المستوى الزائد عن الحد من حرية التفكير، والرأيوالتنظيم، والنشر والإعلام، التي نتطلع إلى أن نجد لها مردودية أكبر على أيصعيد.

أقول هذا الكلام لكي لا يتوهم غبي أن الحجر على تلك الحريات من شأنهإسكات خطاب الكراهية.

إن تاريخ نشأة خطاب الكراهية يحدثنا أنه نشأ في الأصل موجها إلى الدولةلا إلى غيرها. بمعنى أن إنتاج هذه الصناعة كان في الأصل يستهدف إرغامالدولة على شرائها. ففي النظرة التجارية التي تعاملت بها أنظمة سابقة، يتبين بوضوح أن شراء صوتٍ مشاغبٍ واحد أفضل – تجاريا -  من تركهليتكاثر عددا لا متناهيا من الأصوات المشاغبة.

ومن المؤكد أن الدولة - لو كانت منصفة في ذلك الوقت في توزيع المناصب - لما أمكن لخطاب التطرف ابتزازَها وإرغامها على أن تشتريه! "فمن لم يكنمن عصابة السارقين لا يُخيفه قصاصو الأثر".

هكذا نشأت الظاهرة، كما تنشأ كل الظواهر، في البداية على هامش غيرها،ثم لا تلبث أن تصبح "كيانا" مستقلا.

متطرف صائح جديد يخلُف متطرفا قديما باع بضاعته وسكت.. لكن خلافةالبائع القديم أصبحت لاحقا محل تنافس بين أكثر من مترشح للخلافة. ومنهذه النقطة نشأ التنافس على الشعبية التي أصبحت - لأول مرة - مصدراللأحقية في الخلافة، بقدر ما هي – وهذا جديد أيضا – عامل ترجيح لدىالزبون المشتري وهو الدولة. وهكذا أصبح لإيديولوجيا الكراهية أتباع ومعتنقون.

يتعاطى هذه الإيديولوجيا ثلاثة أصناف من الناس:

صنف يتعاطاها كالمدمن على حقنته اليومية من المخدرات، وبقدر ما يصعبعلى المدمن الإقلاع، كذلك يصعب عليهم. وهذا الصنف قليل العدد، وقليلالتأثير أيضا.

أما الصنف الثاني، وتستطيع أن تسميهم "ذئاب السياسة"  أو مجرميها،العديمي الضمائر والأخلاق القادرين بمنتهى الأنانية على "شراء" ما يرونهمصلحتهم مقابل شقاء الجميع.

إنهم تجار "التطرف": يتطرفون ليبيعوا تطرفهم، ولابد للجديد منهم أن تكونتجارته أرقى – بمعنى أشد تطرفا - لأن الموديل القديم سبق لسلفه أن قبضثمنه، وتجاوزته الموضة.

هذه هي الحلقة الجهنمية المفرغة، التي نشأ فيها خطاب الكراهية، وتطور منمجرد لفت انتباه الدولة، إلى كسب الأتباع، ثم ليصبح فيما بعد تقليداومشروعا يسعى إلى تثبيت وتأصيل نفسه.

الظواهر "الاجتماعية – السياسية" لمن يريد فهمها أو علاجها لا يُنظَر إليهامن منظور أخلاقي، لأن ذلك لا يُغير في واقعها شيئا، وإنما ينظر إليها منزاوية الوظيفة التي تؤدّيها. فإذا لم تعد للظاهرة الاجتماعية وظيفة فإنهاتختفي تلقائيا.

معنى هذا الكلام أن الدولة، في زمن أنظمة سابقة، وقد تكون لها مبرراتها،شرّعت نوعا جديدا من تجارة المخدرات اسمه "تجارة التطرف".. وعندما أقول"المخدرات" فأنا أقصد أن الطفرة التي تحدثها هذه التجارة في حياةأصحابها هي بالضبط طفرة الصفقة "المخدراتية" الناجحة.

كيف يمكن القضاء على خطاب الكراهية وهو يدر على أصحابه هذا الرخاء،والمكانة الاجتماعية المرموقة؟؟ ومن طرف من؟ من طرف الدولة نفسها!!!.

لا مخرج من هذه الحلقة الجهنمية المفرغة التي لا قرار لها، إلا بخطة تجمعبين الانصاف التام من جهة، والصرامة التي لا مجاملة فيها من الجهةالأخرى.

يجب العمل على إيجاد المتلازمة التي تُفصِح بوضوح عن أنه بقدر ما يتوفرللمواطن من الاستقامة والاعتدال، بقدر ما تتأكد حظوظه في التعيين، وعلىأنه بقدر ما يتمسك بالتطرف والشذوذ، بقدر ما يواجه العزلة والحصار.

إن على صاحب القرار، أيا كان، أن يتخذ قرارا معلناً ومشروحاً بإقالةوإخراج جميع من جرى تعيينهم وإدخالهم إلى أجهزة الدولة من بابالترضية لهم عن خطاب الكراهية، واستبدالهم بنظرائهم من نفس العائلات،ونفس الشرائح، ونفس القبائل لكي لا يجد أحد طريقا للتظلم، ولا ادعاءًبمظلومية.

إن قرارا كهذا يمكن إدخاله في نطاق الإصلاح الإداري والشفافية التييطالب بها الشركاء والأصدقاء الدوليون، ومنظماتهم.

إن الدولة بقرار كهذا، تستطيع أن تحول خطاب الكراهية من مصدر مدرللمال والجاه، إلى لعنة تطارد أصحابها بالشؤم والنحس.

وأن تحول الاستقامة والاعتدال إلى سعد وبركة على أهلها وعلى الوطنجميعا.

ولكن هل يكفي لمواجهة خطاب الكراهية، تنظيم مسيرة مجتمعية كبرىيشارك فيها أعلى رموز السيادة الوطنية؟

وحدهم كبار السياسيين، والمفكرين، وواضعي الاستراتيجيات ومن فيحكمهم من العقلاء، هم الذين يحسنون قراءة هذا النوع من ردات الفعلالمجتمعية، ويستجيبون لها دائما بالرجوع إلى أنفسهم يتهمونها بالعجزوالتقصير والخطإ في قراءة وفهم المجتمع، ومن ثم يراجعون معلوماتهمويعيدون فحصها. وترتيبها، ويتأكدون من سلامة التحليلات والاستنتاجاتو... إلخ.

وعكس ذلك "الصنف الثالث" وهم جمهور أتباع خطاب الكراهية، منالمعقدين، ومرضى النفوس وحملة أحلام العصافير. الذين يزعمون أنهم لايخطئون أبدا، ويفسرون الأشياء بما في نفوسهم، لا بما هي الأشياء عليهفي نفسها.

من المؤكد أن مثل هذه التظاهرة مفيد جدا، لكنه ينطوي على بعض الأبعاد التي يستحسن الانتباه إليها، ومنها أنه يضع أصحاب خطاب الكراهية على تفاهتهم في كفة، والمجتمع كله بكامل ثقله المادي والمعنوي في الكفة المقابلة..

وهذا بحد ذاته ينطوي على معنىً مّا من معاني "النّديّة" المثقلة بحمولة منالغرور والرضى عن النفس، تحلق بضحاياها في أجواء بعيدة مسحورةبالرومانسية النضالية، والفعل الثوري، حيث تبدو السجون والمحاكم محطاتلا بد من الوصول إليها بوصفها حفلات تكريم وتتويج بأكاليل العظمة علىهامات الفاتحين!

جميع تصرفاتنا تجاه أصحاب خطاب الكراهية، ينبغي أن تهدف دائما إلى إظهار السوءات القبيحة من الطمع المتأصل والانتهازية الرديئة التي يحاولون إخفاءها وتغطيتها بذلك الخطاب. فكلما زاد انكشاف تلك السوءات كلما زاد عدد الذين يرجعون إلى صوابهم من الأتباع، ولن يكون بعيد اليوم الذي يلتفت فيه أحدهم حول نفسه فلا يرى أحد..

 

 

أحمد بياه