فيها يفرق كل أمر حكيم!!! / يحي بن محمدن بن عابدين

-A A +A
أحد, 2015-07-12 04:35

نقف هنا وقفة تأمل مع القرآن، فهكذا أعلنت الآية الرابعة من سورة الدخان، وتشير هذه الآية إلى أهمية هذه الليلة، وإلى ما يكون فيها من أمر حكيم! ففيها تتنزل الملائكة والروح الأمين، وهم يتنزلون بإذن الله وبأمره حتى مطلع الفجر كما بينت سورة القدر، فما هو هذا الأمر الحكيم؟

1. يقول الشنقيطي صاحب أضواء البيان:  معنى قوله : يفرق ، أي يفصل ويبين ، ويكتب في الليلة المباركة التي هي ليلة القدر -كل أمر حكيم ، أي ذي حكمة بالغة ; لأن كل ما يفعله الله مشتمل على أنواع الحكم الباهرة. وقال بعضهم: حكيم ، أي محكم ، لا تغيير فيه ولا تبديل. وكلا الأمرين حق ; لأن ما سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل ، ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة. وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها، وإيضاح معنى الآية أن الله - تبارك وتعالى - في كل ليلة قدْر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة إلى ليلة القدر من السنة الجديدة. فتبين في ذلك الآجال والأرزاق ، والفقر والغنى ، والخصب والجدب والصحة والمرض ، والحروب والزلازل ، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنا ما كان.2. و قال ابن عباس: يُحْكم اللّهُ أمرَ الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقاله قتادة ومجاهد والحسن وغيرهم.3. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وجمهور العلماء على أنها ليلة القدر. ومنهم من قال: إنها ليلة النصف من شعبان؛ وهو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع: (شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ) البقرة/ 185وإن الله سبحانه وتعالى أوجب على عباده الإيمان والرضا بقضائه وبقدره، وهو ركن من أركان الإيمان الستة التي لا يقبل من أحد الإيمان إلا بها، هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، فالإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان.ونلاحظ هنا أن الله تعالى لم يشترط في القضاء والقدر إلا الرضا فقط كما ثبت في الحديث، وهذا يجرنا للتساؤل عن القضاء والقدر؟ إن القضاء هو قضاء الله تعالى في تدبيره وتسييره لهذا الكون، وبما أنه تعالى خلق الزمان، فهو مخلوق من مخلوقاته، فلا يجب أن نتساءل لماذا يقدر علينا ويحاسبنا، فالزمن يحكمنا ولا يحكمه سبحانه، وكذلك يجب أن نفهم أن القدر هو مقدار هذا الحكم في الأرض، فكما أن الله تعالى يقول: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/49 أي بمقدار علمناه، وقضيناه وقدرناه، وقد قدر الله سبحانه وتعالى أربع مراتب في القضاء والقدر:• المرتبة الأولى: علم الله السابق بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً.• المرتبة الثانية: كتابة كل ما هو كائن في اللوح عنده فوق عرشه.• المرتبة الثالثة: توزيع ما هو كائن على الزمن، وهذه المرتبة ينزلها الله في ليلة القدر، ينزل فيها ما هو كائن في السنة التي هي فيها، ففيها يفرق كل أمر حكيم أي كل أمر قد أحكمه الله تعالى من تدبيره لعباده من الأرزاق والإماتة والإحياء والمطر وما يقع في السنة من الأعمال كلها فينزل كل ذلك في ليلة القدر وهي خطة السنة بكاملها.• المرتبة الرابعة تنفيذ ذلك على وفق علم الله سبحانه وتعالى، فهذه الآية مثبتة لمرتبة من مراتب قدر الله التي يجب الإيمان بها.4. وقيل يفرق أي يفصل ويفرق عن اللوح المحفوظ فينزل إلى سماء الدنيا ويودع عند ملائكتها الحفظة، فلكل ملك مهمته الخاصة، وقيل يفرق أي يوزع على الملائكة بالأوامر، فإن الملائكة عليهم السلام تأتيهم الأوامر من أمر الله سبحانه وتعالى، وهم يستقبلون عن الله سبحانه وتعالى إذا تكلم يقولون حين يفزع عن قلوبهم: (ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) سبإ/23، ثم بعد ذلك يطبقون ما يؤمرون به.5.  وقيل معنى يفرق كل أمر حكيم؛ أي يفصل بين الناس في قضاياهم وفيما يكتب لهم من الأرزاق وغير ذلك في هذه السنة كلها، والحكيم المحكم المبرم، وأمراً من عندنا أي أمراً من عند الله وليس للناس فيه حظ لأن القدر من أمر الله المحض الخالص، وهو سر الله المكتوم الذي لا ينبغي الاطلاع عليه، قال الشعرواي: (ويمكن أن تحتمل الفرق بين أمرين حكيمين، وترجيح أحدهما على الآخر كما كان في تحويل القبلة).إنها إذن إخوتي الكرام من أعظم الليالي وأفضلها، إنها ليلة القدر، إنها الليلة المباركة، وما أخفاها الله إلا من أجل أن يجتهد الإنسان في طلبها، فهي خير من ألف شهر، والعبادة فيها تعدل العبادة في 84 سنة، فكيف يكون لأي عاقل، ولأي مسلم يرجو الآخرة أن يترك هذه الفرصة الثمينة تمر من بين يديه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المأزر، وقال عليه السلام: التمسوها في الوتر من العشر الأواخر، وكان يجتهد في هذه العشر كلها أكثر مما يجتهد في رمضان، وكان يعتكف فيها، فعلينا اقتداء به أن نجتهد وأن نعتكف ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ومما يجب أن ننتبه إليه ونحذر منه باعتباره من المحدثات: هو اتخاذها ليلة 27 تأكيدا، وتعظيم هذه الليلة بالذات والاحتفال بها، والدعاء على الطعام والشراب فيها، وختم القرآن بها، وكأنها نهاية رمضان، إلى غير ذلك من المحدثات، فإن الله لا يعبد إلا بما شرع، وسنّه رسوله الكريم أو أجمع عليه العلماء؛ من صلاة وقيام واستغفار وصدقة وغيرها من أعمال البر، وهم مختلفون فيها تأكيدا، وإن رجحوا أنها ليلة 27، وفقني الله وإياكم لكل خير.