الحكمة من وجود حكماء/د.سيدي المختار أحمد طالب

-A A +A
سبت, 2015-07-18 15:12

أول ما يخطر على البال عند الكلام عن الحكمة والحكماء هو وصايا نبي الله لقمان لابنه باعتباره مصدر استلهام معني الحكمة من القرآن ثم بعد ذلك تجيء الأدعية الكثيرة المروية عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي تستشف منها أيضا كل المعاني التي يمكن أن يشملها مفهوم الحكمة عند المسلمين وأهل الفطرة السليمة.

 

لكن الأنسب لغير العارفين بمجالات الدين واللغة العربية هو كلام الفلاسفة والمفكرين أمثال أرسطو وأفلاطون وهيجل لإمكانية تسفيه بعضه وتجاوز بعضه دون حرج أو خوف من عقاب رب العالمين. و كذلك الحال بالنسبة لما يتضمنه القديم والحديث من تراثنا بخصوص الحكمة والحكماء.

 

من التعريفات التي استوقفتني والتي قد تلخص أهم ما قيل في الموضوع تلك التي تقول إن الحكمة، مثل الحقيقة، ضالة البشرية عامة والمسلم خاصة، هي "عمل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي" أو أنها " عصارة التجارب الحياتية وإفراز للحوادث والنوازل وإلهام بعد تفكير وتدبر للأمور"؛ أي إنها بعبارة أخرى مجموعة قيم تترجمها رؤى وأنشطة وسلوك خلدها الأقدمون شعرا ونثرا.

 

ومن هنا ندرك علاقة الحكمة بالزمان ومراعاتها لنتائج القرار وعواقبه وأن من أدواتها التفكير والتدبير والترشيد والاعتبار من التجارب والتاريخ سعيا دائما إلى الوصول إلى الرأي السديد وإلى الهدف المنشود وذلك سواء تعلق الأمر بمعالجة مشكل حاصل أو منتظر أو بأمر من أمور الحياة عامة؛ وتقريبا للأذهان تطلب الحكمة عند اتخاذ قرار بشأن قضية بعينها أو وضع وتنفيذ سياسات واستراتيجيات تعالج قضايا تتعلق بمستويات أرفع وأكثر تعقيدا مثل تسيير مؤسسة أو مجموع مؤسسات أو هيئة عالمية أو دولة بمختلف مكوناتها وأركانها.

 

والمتأمل قليلا في هذه التعريفات ربما يتراءى له أن إشكال الحكمة لا تكمن في تعريف المفهوم لغة واصطلاحا وإنما في من الحكيم بعد الرسل والنبيين ومن تلاهم منزلة وهل لدينا اليوم حكماء في مجتمعنا الموريتاني؟

 

وللجواب على هذه التساؤلات وانطلاقا من تنوع الحكمة وتفاوت درجات الحكماء لا بد من بحث أكاديمي يستحضر فيه تاريخ بلدنا الاجتماعي والثقافي والفكري وتبرز فيه المعايير التي قد تعتبر مرجعية علمية في تصنيف الحكماء عموما، ساعتها ربما يتسنى لنا اكتشاف شخصيات تميزت في ماضينا وحاضرنا بالرزانة ورجاحة العقل والحكمة والبحث عن الحقيقة والحرص على الصدع بها وإشاعتها بين الناس.

 

وفي انتظار من يقوم بهذا النوع من العمل من المؤهلين اسمحوا لي بمحاولة ملامسة الواقع وأن أرشح لنيل لقب الحكيم هذه المنزلة الرفيعة كل موريتاني اعترف بالقبلية واقتصر في فهمها وتوظيفها على ما أراده الله منها بغض النظر عن الوضع الاجتماعي الذي قد يتم اعتراف المجتمع به وقد يحاول بعض الأفراد دفع صاحبه للتمسك به والاستفادة منه في أمور الدنيا. و لا ننس أن هذا الوضع الاجتماعي تحدده كل مجموعة وشريحة وفئة لبعض أفرادها حسب معايير موروثة أو مكتسبة لا يكترث الكثيرون لكونها مبررة أو غير مبررة حالا أو قدما.

 

ولا غرابة في أن يطمع في الفوز بتلك المنزلة أيضا من انتمى لجهة من جهات الوطن وسعى في تطويرها وتنميتها كمواطن عادي أو من خلال وظيفة انتخابية أوصله الشعب إليها وأنارت الطريق لها خطة شاملة وضعت من طرف الدولة؛ إن الإخلاص في الولاء لمنطقة تعاقب فيها الأجداد وعاشوا من خيرات أرضها لا عيب فيه ما لم يميز صاحبه بين أفراد منطقته وما لم يكن هناك أيضا هضم حق لإنسان له انتماء جهوي مغاير.

 

ولماذا نمنع من النعت بالحكيم ذلك المواطن الذي نال وظيفة إدارية بجدارة ومارس صلاحياته طبقا للسياسة العامة وللإستراتيجيات والخطط المرسومة لتطبيقيها ميدانيا مع احترامه للقوانين والإجراءات المعمول بها وبدون تمييز؛ إنه الرجل العادل، المتفاني في خدمة وطنه، القريب من مواطنيه، البعيد من المال العام والرشوة والذي لا يتخلف عن الدوام إلا لضرورة.

 

وأعظم درجة عند الناس من امتنع عن الانتماء للأحزاب السياسية وابتعد عن التموقع في خندق كل من الموالاة حيث لا خطأ يرتكب ومن المعارضة التي تكفر بكل إيجابيات الحكم وتفضل دائما تضخيم أغلاط وأخطاء الحاكم والتشهير بها. و يزداد أصحاب هذا الخيار درجة إذا ما تميزوا بعقل راجح وتجربة كبيرة وقيمة اجتماعية أو دينية محل إجماع لدى العامة والخاصة. 

 

وهذا الصنف من المواطنين جسده الحكماء التقليديون الذين كانوا يفضون الخلافات و يصلحون ذات بين الأفراد والأسر والقبائل... من جهة وبين هؤلاء والدولة من جهة أخرى؛ هم الذين تحولوا اليوم إلى جنود مجهولين يساهمون في السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، أما دورهم العلني فيكبر ويصغر حسب القيمة التي توليهم إياها الدولة. وبالمناسبة فبقدر ما لدول أخرى مختاروها وقائموا مقامها يجب علينا نحن أن نحتفظ بدور شيوخنا وأشياخنا ونطوره وأن نبتدع وسطاء حكماء آخرين يتناسب دورهم مع تطور البلاد وتعقد مشاكل العصر.

 

ولا مراء في أن هؤلاء الحكماء التقليدي منهم والحديث تظهر الحاجة الماسة فيهم عندما يستفحل الخلاف بين الأغلبية الحاكمة والمعارضة الطامعة لاسيما حين يتطور ذلك الخلاف إلى أزمة سياسية حقيقية أو إلى انسداد كامل.

 

مثلما افتقدنا هؤلاء الحكماء أيام تصاعد الخلاف بين فريق الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله وخصومه من العسكريين والمدنيين هل نفتقدهم هذه الأيام بعد تصاعد الخطاب المتطرف وتصدع جدار التعايش السلمي بين مكونات الشعب وتعثر الحوار بين الأغلبية والمعارضة؟ أما بخصوص الحوار فما يزال الموريتانيون يعقدون عليه آمالا كبيرة ويتخوفون في نفس الوقت من عواقب فشله، لا قدر الله.

 

وأخيرا أتمنى أن يصبح شعار صفوة مثقفينا "فأصدع بما يأمر به الضمير مما حصل في الصدور" كما أذكر إخوتي السياسيين في البلد قبل غيرهم أنه إذا قيل قديما "ذل قوم بلا سفيه" أنه يمكن القول أيضا حديثا "ذل قوم أضاعوا الحكمة وانتهجوا سبيل السجال و الارتجال". إنها في النهاية دعوة إلى ظهور أبي ذر جديد من موريتانيا وإلى إعادة التفكير في الحكمة وفي الحكمة من وجود حكماء في كل مجتمع وفي كل زمان.