قراءة في مفهوم الحوار وأدبياته

اثنين, 2015-07-27 19:22
لشيخ سيداتي ولد أحمد مولود: أستاذ بجامعة العلوم الاسلامية

ؤكد المهتمون بأدبيات التربية بأن الحوار من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي التي تتطلبها الحياة في المجتمع المعاصر لما له من أثر في تنمية قدرة الأفراد على التفكير المشترك والتحليل والاستدلال، كما ان الحوار من الأنشطة التي تحرر الإنسان من الانغلاق والانعزالية وتفتح له قنوات للتواصل يكتسب من خلالها المزيد من المعرفة والوعي، كما أنه طريقة للتفكير الجماعي والنقد الفكري الذي يؤدي إلى توليد الأفكار والبعد عن الجمود ويكتسب الحوار أهميته من كونه وسيلة للتآلف والتعاون وبديلاً عن سوء الفهم والتقوقع والتعسف.

 

ولقد أكد ديننا الإسلامي على قيمة الحوار وأهميته في حياة الأمم والشعوب، وذلك من خلال ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز حيث قال سبحانه {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، وهذا توجيه حكيم إلى أمة محمد بأهمية استخدام الحكمة والحوار في دعوة الناس إلى طريق الحق من خلال الحوار الهادف والتذكير بالله والمجادلة بالكلم الطيب مما يشير إلى قيمة كبيرة في حياة كل مسلم وهي استخدام الكلمة الطيبة والدعوة الصادقة في التعامل مع الناس وفي حوار الآخر وفي التأكيد على قيمة الرفق بالآخر والصبر وإظهار محاسن الدين بالقدوة الحسنة.

 

وبما أن الحوار أصبح حاجة إنسانية وعلماً يدرس ومهارة تكتسب فإن هناك أساساً لهذا العلم ينطلق من خلال التعرف على مفهومه وأدبياته التي لابد من احترمها كي يفضي إلى ما يراد منه.

 

اولا: مفهوم الحوار

لقد تناول الكثير من التربويين مفهوم الحوار وأهميته في حياة الأفراد والشعوب من خلال دراسات علمية تربوية، حيث أصبح الحوار في عصر المتغيرات المتسارعة مهارة حياتية لا غنى للجميع عنها من آباء وأمهات وأبناء وبنات، بل أصبحت مؤسسات المجتمع بحاجة ماسة إلى هذه المهارة المهمة والمهارة الذكية، التي تختصر المسافات لنقل المعارف والآراء والأطروحات والقيم والأفكار والاتجاهات. وفي هذا الإطار، لا بد أن نفرق بين مفهوم الحوار ومفهوم الجدل.. إذ أن الأخير لا يتعدى العمل على إثبات تفوق الذات على الآخر عن طريق مهاجمته أو الدفاع حيال هجماته.. بينما الحوار يتجه إلى تفكيك واقع سيء يضغط على كلا الطرفين أو الأطراف المتعددة، لذلك فهو يستهدف معالجة مشكلة علمية أو عملية، فردية أو اجتماعية، راهنة أو مستقبلية.

 

لهذا فإن عملية الحوار تسعى في مضمونها وأشكالها إلى توسيع المساحات المشتركة وضبط النزعات الاستئصالية والإلغائية، والعمل على بلورة الأهداف والتطلعات المشتركة وبهذا يبتعد مفهوم الحوار السليم عن المماحكات والسجالات العقيمة التي تزيد من الجفاء والتباعد، ولا توفر مناخا نفسيا واجتماعيا للمزيد من التعارف والتواصل. فالحوار هو الاستماع الحقيقي للأقوال والأفكار والآراء والقناعات، وعقد العزم على إتباع الأحسن والأجود.. إذ يقول تبارك وتعالى [والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب].. (سورة الزمر، الآية 17- 18).

 

.فالسجال الأيدلوجي أو الفكري أو السياسي، هو هجوم ودفاع، إفحام ومماحكة. بينما الحوار فهم وتفاهم، تعارف وتواصل، اشتراك مستديم في صنع الحقيقة والرأي المشترك. فالحوار قيمة إسلامية وحضارية، أرساها النص القرآني، وعمل المسلمون على ضوئها وهديها في علاقاتهم الداخلية ومع الآخرين. ويقول عز من قائل [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون].. (سورة آل عمران، الآية 64).

 

. لذا فإننا مطالبون جميعا أغلبية ومعارضة، أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعا بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا. والحوار قبل أن يكون أطرا وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا.

 

ثالثا : أدبيات الحوار أو سبل نجاحه.

يؤكد المهتمون بالحوار أن أهم أسباب نجاحه يعود إلى إدراك المحاورين إلى آداب الحوار وإلى فنياته الموصلة إلى الهدف الذي يسعى له.

 

ومن أهم آداب الحوار أن يكون المحاور حاضر الذهن مركزاً في الطرح وألا يقاطع الطرف الآخر ولا يسابقه بالحديث ولا يرفع صوته عليه وأن يحسن النية بالطرف الآخر ولا يظهر الظن السيىء به، لأنه حضر لكي يطرح رأيه للوصول إلى الحقيقة، ويحدد الموضوع مسبقاً بين المتحاورين لكي يسهل التركيز في الطرح للوصول إلى النتيجة الإيجابية، وان يركز المتحاور على موضوع الحوار وليس صاحب الحوار من أجل أن يكون الحوار موضوعيا ومحققا للهدف، وليس من أجل تحقيق انتصار شخصي للطرف الآخر.

 

وعلى ضوء هذا نستطيع القول: أن الحوار كقيمة ومبدأ وممارسة، ليس موقفا تكتيكيا ومرحليا في حياة الإنسان المسلم بل هو خياره في الحياة ووسيلته للتواصل مع الآخرين وسبيله إلى الإقناع والدعوة.

 

وقد جرد القرءان الكريم  الحوار من ذاتية المتحاور، فلم يكن كما يقول المتحاورون: رأيي صواب يحتل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. بل جعل المتحاورين لا يتبنيان شيئا حتى ولو كانا في العمق ملتزمين التزاما حاسما حول هذا الموضوع أو ذاك فعلى لسان النبي (ص) الذي جاء بالصدق وصدق به( إنا أوياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين "سورة سبأ الآ24") حيث يعتبر أن هناك حقيقة، وأن هناك شكا مشتركا، وأن الطرفين يرادان أن يحركا هذا الشك في طريق اليقين حتى  يلتقيا بالحقيقة.

 

فالعدالة والموضوعية في عملية الحوار، هي التي تحركه من جانبه الجدلي الذي يستهدف تسجيل نقطة معينه دون أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة.

 

وبذلك يعتبر كل طرف نفسه مع الحقيقة التي لا يمكن أن يحيد عنها، ويعتبر الطرف الآخر خارجا عن نطاق الحق والحقيقة، ويتحول الحوار جراء ذلك إلى محاولات متبادلة لإقناع الآخر بقناعات الذات دون أن نعطي لأنفسنا جميعا فرصة الإنصات والتفتيش عن الحقيقة لدى الطرف الآخر.

 

فغياب الاستعداد النفسي للتعامل مع الآخر على حد سواء، هو الذي يفقد الحوار حيويته ويحوله في حال وجوده إلى مماحكات وسجالات تشحن النفوس وتزيد من الحواجز والموانع وتحول دون التفاهم المتبادل.

 

لهذا فإن منهجية الحوار السليمة، تقتضي منا جميعا التخلص من كل الرواسب النفسية والثقافية التي لا تقبل الآخر وتثير أمامه زوبعة من الشائعات والاتهامات بدون أي سند أو أي مبرر سوى الاختلاف معه، فالاختلاف مهما كان شكله أو مستواه لا يشرع للإنسان الظلم أو إطلاق الشائعات والاتهامات الرخيصة أو التنابز بالألقاب أو القذف بأقذع الشتائم وألوان السب.

 

لذلك فإن الدرس العميق الذي يجب أن نستفيده من تجارب العديد من المجتمعات العربية والإسلامية، التي عانت وما زال بعضها يعاني من العنف والتطرف والقتل المجاني والحروب العبثية هو أن الحوار بكل مستوياته، هو مشروعنا لصون الحرمات، وحل المشكلات، وإدارة التنوعات والاختلافات. فبالحوار في دوائر الوطن والأمة، يتكامل منطق الاختلاف ومنطق الاعتراف، وصولا إلى تأسيس دينامكية اجتماعية جديدة، تتجه صوب التطلعات الكبرى للوطن والأمة.