ألف صحفي وربع صحافة

ثلاثاء, 2015-08-11 17:38

"لا توجد أخبار، جمعة طيبة"! في الثامن عشر من إبريل عام 1930 قال الصحفي عبر أثير إذاعة بي بي سي الدولية تلك الكلمات قبل أن ينقطع الإرسال المباشر.

 

بتلك البساطة تعامل الصحفي والمحرر ومنتج النشرة وكل مؤسسة البث البريطاني مع واقع وجدوا أنفسهم فيه ذات يوم جمعة، لم توجد أخبار، لم يصلهم أي نص خبري ولا معلومة تفيد بحدوث أي شيء يستحق البث، ومن نافلة القول إن البي بي سي كانت حينها (وربما لا تزال اليوم) في قلب أحداث العالم بأسره نقلا وتحليلا وتوثيقا بالصوت والصورة والنص.

 

أسوق هذا المثال في بداية هذا المقال لأمرين اثنين أرجو من القارئ الكريم أن يفهم عمقهما بعيدا عن العبارات التي قد أختارها لكتابة ما أريد قوله:

 

الأمر الأول أن الإعلام لم يكن يوما –وربما لن يكون- لعبة إثارة يستخدم في تشغيلها لاعبون مهرة في استخراج مكامن التشويق في حدث معين، ولم يكن الإعلام وسيلة جذب بقدر ما كان منذ نشأته الأولى وسيلة "إخبار" و "تثقيف" و"تعليم" و"توعية"، وتلك أمور أربعة لا تقتضي بالضرورة استحداث أخبار من العدم أو تقديم ثقافة مغلوطة أو تعليم الناس غير ما يجب أو توعيتهم على أمور هم في غنى عنها وعن معرفتها، إما لاختلاف الهوية الثقافية للمتلقي عن المنقول منه استنساخا أو لضرر معنوي قد يحدث للقارئ عندما يكتشف أن خلف العنوان البراق جملة كسرت كل قواعد الكتابة الصحفية بل حطمت قواعد الكتابة من حيث المبدأ، فلم تكن مفيدة لتكون جملة ولم تكن خبرية لتكون صحفية، فكانت بذرة لمقال غير مفيد.

 

الأمر الثاني الذي جعلني أفتتح بقصة الصحفي البريطاني، هو ركام ملاحظاتي الصامتة لعقد من التطور الصحفي في بلد يقبع جغرافيا في أقصى دائرة الاهتمام "الخبري" ولم يكن له تاريخيا من الوزن السياسي أو حتى الجيوسيساسي ما يجعل طفرة إعلامية قد تكون مقبولة على أرضه، ولذلك اعتبارات أدناها أن تضخم النخب على حساب القواعد الشعبية العريضة يؤدي إلى اختلال ميزان التلقي، وبالتالي يفقد الخبر أهميته ويفقد السبق الخبري –أو الصحفي- معناه وجوهره، فلا نتوقع من قارئ تمر عليه عشرات "العواجل" و"العناوين المشوقة" يوميا عبر عشرات المواقع والبرامج والمنتجات الإعلامية، لا نتوقع منه بأي حال من الأحوال أن يثق في المصادر التي تبعث بكل تلك الأخبار إليه.. ومن تلك المفاصلة يحدث الشرخ المنهجي في طبيعة التعاطي الإعلامي الموريتاني بين المرسل والمتلقي حتى ولو كان البعض ينادي بمثالية مفرطة إلى الانتقال من إعلام الجهة الواحدة إلى إعلام يصنعه الجميع ويشاركون فيه كل حين.

 

الأمران أعلاه مقدمة للحديث عن الإعلام في موريتانيا أو عن معضلة الإعلام في موريتانيا ومشكلته الحقيقية التي لم تكن يوما في "الحرية" كما روج البعض عندما حدث ما سمي رسميا بتحرير الفضاء السمعي البصري، فالحرية المطلقة مستحيلة والحرية المقيدة بشرط العجز عن أداء حقها هي حق ناقص، ولد وهو يحمل في جيناته قتل كل من يمارسه.

 

وذلك هو المشكل الحقيقي لما يسمى "إعلاما" في موريتانيا، عندما يفتح باب الحرية على مصراعية ويعطى الحق لكل أحد في فتح الموقع الذي يريد أو القناة التي يريد أو الإذاعة التي يريد دون أن تكون الضوابط المهنية مرسومة بشكل صارم يجعل المحتوى المقدم من طرف المرسل غير قادر على تسميم عقل المتلقي أو ذوقه على أقل تقدير، عندما تغيب سلطة التأطير وقوة التدريب والتكوين، عندما يختفي الإطار الحرفي لإحدى أصعب المهن في العالم، وعندما نرى خبرا جديدا كل ثانية وموقعا مستحدثا كل يوم، عندما يحدث ذلك في بلد كموريتانيا لا يمكننا لوم الشعب على فقدان بوصلة الوعي، بل لا يمكننا –أخلاقيا على الأقل- لوم من يفقدونه ذلك الوعي أو يميعونه، لأن خلف كل خبر يكتب وفي جوهره مغالطة، وخلف كل عنوان جذاب يرسم وتحته حفرة، وبين كل سطرين يدونهما محرر هاوٍ ليستأثر بوقت قارئ نهم، خلف كل ذلك وبينه وأمامه وزارة "وصية" لا يبدو أنها تكترث للأمر، هذا إن لم تشر بعض أصابع الاتهام إلى تورطها، وحكومة إن افترضنا جدلا أنها تدرك أن للإعلام سلطة مؤثرة فهي لا تستخدم تلك السلطلة لما فيه صلاح البلاد والعباد وإنما تفضل –من ظاهر حالها- أن يبقى الحال كما هو، وأن تنطبق مقولة بلاد السيبة على كل شيء حتى الحَرف الذي قد يصنع نهضة.

 

وتضاف إلى مشكلة القوانين الناظمة والنظم المحددة لتفاصيل العملية الإعلامية التي من المفترض أن توجد لتنظم لا لتعطل أو تقيد أو توقف وتسجن بل وتقتل إن اضطرت لذلك، تضاف إلى تلك المشكلة العائمة، مشاكل أخرى أكثر حرجا وصعوبة للحل ربما أوضحها: التسابق إلى الإعلام حتى أصبح مهنة من لا مهنة له، بينما في أًصقاع أخرى من العالم مهنة لا يجرؤ على خوض غمارها إلا ذوو الأحلام والنهى، وفوق ذلك تتكددس الهيئات الإعلامية دون وجود خيط ناظم لوجودها يضبط المعايير ويقوم الأعمال ويصوب الأخطاء وربما إن اقتضت الضرورة يحل المشاكل ويعمل على تجاوزها.

 

وليس الجانب المادي إلا أحد التجليات السلوكية لغياب الطرح الفكري التأصيلي لإعلام حقيقي في موريتانيا وهي نقطة ربما يرى منها النبيه أن المجتمع الذي لا يريد البذل من أجل إعلام جاد لن يحصل إلا على مثل ما نرى اليوم. خارطة إعلامية متشعبة ومعقدة، إعلاميون يفتقدون لأبسط مهارات الإنتاج الصحفي الحقيقي، مؤسسات لا تقف إلا لتسقط ورابطات إن وجدت فأقصى ما تفعله السهرات والبيانات، ووزارة تقع سهوا أو عمدا من النص الرسمي للتوليفة الوزارية ثم تعود على استحياء لتمارس دورا يعوزه الوضوح وتنقصه الجدية. ومع كل ذلك نتساءل: ما مشكلة الإعلام في موريتانيا؟ بينما كان الأبلغ أن نسأل: أي مشكلة لا يعاني منها الإعلام الموريتاني!؟

 

لا أحتاج طبعا إلى القول أن في كل مهنة وكل مجال، ثلة قابضة على جمرة الجد والاجتهاد تعمل بصدق ومهنية من أجل ما تؤمن به، وهناك قلة من تلك الثلة تسعى جاهدة لتغيير ما تعتبره خاطئا وما هو فعلا خاطئ.

 

ختاما أشير إلى أن عالم اليوم لم يعد يسمح لأي أحد بفعل ما يحلو له خارج إطار المراقبة والتعليق والإعجاب وعدم الإعجاب، عالم اليوم بات أكثر مرونة وحداثة من أن يحاول أحد تحريكه بقواعد ما قبل الحداثة، ولم يعد من المنطق أن نبحث عن الأسباب بعد الحدث بل صار الحدث صناعة ومهنة يتقن البعض التحكم فيها ويتقن آخرون قراءتها والبناء عليها وتتقن الأكثرية الساحقة السباحة مع تيار التمييع، والغارق آخر ما يخشاه البلل.