نجاح الحوار

ثلاثاء, 2015-08-18 17:15

ترجع جذور أزمة النظام السياسي الموريتاني إلى البدايات الأولى لقيام الدولة، مع انطلاقة التأسيس، فجاءت العديد من الأحكام المتعاقبة على البلد التي بزعم محاولة الإصلاح والسعي  للسيطرة على الأزمة، التي يأتي العامل السياسي في مقدمتها مما تسبب في الإعاقة الدائمة لنظام الحكم، ويعود ذلك إلى تأثير البيئة الحاضنة لنظم الحكم المتعاقبة وسهولة توظيفها كما فهم المستعمر و النخبة العسكرية من بعده حين تمت تعبئتهم اللاوعي الجماهيري على نحو من الاستلاب والتشوه في الرؤى والتصورات، جعلنا نفشل في سلب الاستقلال الحقيقي وفرض الديمقراطية.

 

وهذا ما يعكس تعقيدات الأزمة و تعدد أبعاد ها فمنها ما هو سياسي و دستوري وسيسيولوجي. ومن أجل معالجة الأزمة السياسية الموريتانية يستلزم منا ذلك العودة إلى جذورها مع بداية نشأة الدولة وما رافق ذلك من تشوهات للمنظومة السياسية شكلت بالنسبة لها بذرة توتر وتأزيم دائمين، حيث تعود بداية  نشأة الحياة السياسية المعاصرة إلى أواسط 1946، بعد انتخابات ممثلي الإقليم في الجمعية الوطنية  الفرنسية، لتستمر حتى حصول البلاد على استقلالها الداخلي 1959، مكونة الانطلاقة المباشرة لتعايش الموريتانيين مع بناء المؤسسات السياسية وتعاملهم مع طريقة تأسيس المنظومات القانونية المتمثلة في التشريع الدستوري.

 

وبعد حصول البلاد على الاستقلال الداخلي تم تكوين لجنة استشارية لوضع مشروع دستور للبلاد وتحولت الجمعية الإقليمية إلى جمعية تأسيسية لوضع الدستور، وتم انتخاب مكتبها على النحو التالي:

 

السادة أحمد ولد احمد عيده رئيسا، كان يحيى نائبا للرئيس، محمد المختار ولد معروف ولد الشيخ عبد الله مقررا، ودمبلي تكورا نائبا للمقرر، المختار ولد حامد مقررا عاما لصياغة الدستور.

 

وهو ما سيحدد طبيعة التوجهات ونوعية المؤسسات، فبعد تقديم الدستور للمجلس الحكومي ودراسته تم تقديم مشروعه إلى الجمعية التأسيسية التي صادقت عليه في 22 مارس 1959 وقد أقام هذا الدستور نظاما شبه برلماني يعترف بالتعددية السياسية شريطة الالتزام باحترام مبادئ الديمقراطية وشكل النظام السياسي والوحدة الوطنية، وقد جاء دستور 1959 بجمعية وطنية تتكون من 40 نائبا.

 

وكان من اختصاص هذه الجمعية انتخاب الحكومة وجعلها مسؤولة أمام الجمعية الوطنية، وقد كان الفصل بين السلطات في هذا الدستور مرنا (المادة 17)، ويلاحظ أنه في ظل هذا الدستور كانت وسائل الضغوط متساوية بين الحكومة والجمعية الوطنية، حيث يمكن للحكومة أن تحل الجمعية الوطنية، كما يمكن لأعضاء الجمعية الوطنية إقالة الحكومة عن طريق ملتمس رقابة مقدما من طرف أعضاء الجمعية.

لقد جاء هذا الدستور مستوحيا مقتضياته الدستورية من دستوري فرنسا لسنة 1946، 1958، كما تجلى ذلك في شكل النظام وقد ضمت أول حكومة منتخبة من طرف الجمعية الوطنية في ظل دستور 22 مارس 1959 السيد الرئيس المرحوم المختار ولد داداه رئيسا للحكومة ووزيرا للداخلية، موريس كومبان وزيرا للمالية, أحمد سالم ولد هيبه وزيرا للاقتصاد الريفي وقد كان التعاون قائما بين السلطتين التنفيذية والتشريعية مع تحديد مجال القانون وإطلاق مجال اللائحة، كما تم التأكيد على استقلال القضاء في المادة (43)، وكذلك تم خلق لجنة دستورية مكلفة بمراقبة دستورية القوانين لكن رأيها استشاري فقط وليس ملزما.

 

 

وانسجاما مع أحكام المادة(9) من الدستور التي تقر بالتعددية السياسية فقد تم تأسيس الاتحاد الوطني في لعيون 1959،و بعد ذلك بفترة قليلة تأسس حزب الاشتراكيين المسلمين في أطار 1960، غير أن العمل بدستور 22 مارس1959 ومؤسساته لم يدم طويلا ، حيث كان إصرار بعض الفعاليات السياسية وعلى رأسها حركة الشباب في الحصول على الاستقلال الكامل، فإن مفاوضات دارت بين الحكومة الموريتانية والحكومة الفرنسية في باريس وانتهت بتوقيع اتفاقية في 19 أكتوبر 1960 تم بموجبها نقل سلطات الاتحاد إلى حكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية التي أصبحت دولة مستقلة في 28 نوفمبر 1960.

 

ويلاحظ أن دستور 1961 كرس نظاما رئاسيا يهيمن فيه رئيس الجمهورية على السلطة التنفيذية بالكامل حيث يرأس الدولة والحكومة في آن واحد وهو الذي يعين الوزراء ويقيلهم، وهم مسؤولون أمامه وحده, كما أنه يمارس السلطة التنظيمية بواسطة المراسيم، وكذلك له اختصاصات تشريعية أخرى منها تقديم مشاريع القوانين , بالإضافة إلى أنه يمارس سلطة مطلقة في حالة الظروف الاستثنائية طبقا للمادة 25 من الدستور المستوحاة من المادة 16 من الدستور الفرنسي 4 أكتوبر 1958.

 

ومما سبق يتضح أن تطور المؤسسات السياسية في موريتانيا ظل مستمرا وإن كان بوتيرة غير سريعة، إلا أنه من المؤكد أن تطور المؤسسات في ظل دستور 1961 كان يتجه إلى تكريس السلطة في يد رئيس الجمهورية المنتخب لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد أكثر من مرة شريطة أن يكون مرشحا من  حزب الشعب المهيمن على جميع مؤسسات الدولة.أما عن السلطة القضائية فقد تم التأكيد على استقلالها، وهو ما تم تجسيده بإنشاء محكمة عليا، بالإضافة إلى محاكم ابتدائية، ومحاكم استئناف.

 

وبذلك واصل النظام الرئاسي سيطرته قرابة عقدين من الزمن بنظام الأحادية الحزبية المركزية إلى أن تم الانقلاب على الحكم المدني 10 يوليو 1978.

 

وهكذا فإن الدولة الموريتانية الجديدة عرفت صعوبات في بناء المؤسسات في السنوات الأولى لقيامها. وفي هذا المضمار فإن هذه المنظومة تأسست بشكل تلقائي وعفوي في مجتمع أمي ومتخلف ، لم يمكن النخبة أو الطبقة السياسية من أن تتحرك بحرية أثناء وضع اللبنات الأولى للدولة بعيدا عن رقابة المجتمع، إلى جانب تداعيات حرب الصحراء، وهذا ما انعكس بشكل خطير على جميع مفاصل هذه المنظومة بدءا بالمؤسسات الدستورية والعلاقة فيما بينها مرورا بالأحزاب السياسية وآليات إنتاج النخبة السياسية، وتعاظم دور المؤسسة العسكرية، وبالتالي طريقة تدبير الشأن العام الوطني وهو ما أفضى إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي عشناها ولا زلنا نعيشها إلى حد الساعة.ويعد الانقلاب العسكري في 1978  قد قضى كليا على العملية السياسية برمتها والحكم المدني بعد تعطيل الدستور، حيث أخضعت تجربة الحكم العسكري العمل السياسي لمجموعة من القواعد – غير المدونة غالبا- أو غير المعلن عنها بشكل واضح، مما جعلها مرنة تتغير بتغير رأس النظام وتوجهه السياسي.وقد تعاقبت على البلاد كومة من المواثيق الدستورية العسكرية ، لم تأت بجديد استمرت في منع التعددية السياسية حتى دخلت البلاد نفقا مظلما منذ ذلك التاريخ .

 

إن محاولة تحديث وعصرنة النظام السياسي والدولة في موريتانيا لا يزال في طور التكوين، حيث تعترضها مجموعة من الإكراهات والمشاكل التي ترتبط في مظاهرها البسيطة بممارسة السلطة، حيث أن النقطة الجوهرية هنا تتعلق باستخدام النخبة الحاكمة لهذه  التناقضات في سبيل تدعيم سلطتها، وهو ما مكن المؤسسة العسكرية من التمسك بالسلطة بدعم من النخبة السياسية التي كانت( السبب) في ترسخ العادة عند العسكريين باستخفاف حكم  المدنيين وفتح شهيتهم باستمرار في الاستلاء على الحكم للاستفادة من امتيازاته، وهذا ما شكل أشد خطر على الديمقراطية  بعد الانفتاح السياسي في دستور20/يوليو/1991  التعددي،الذي جاء بعد مؤتمر لابول1989 بوصفه انفتاح سياسي كبير عاشته البلاد لأكثر من عقد من الزمن، بتزامن مع التحول الديمقراطي في العديد من دول إفريقيا الذي ارتبط ببرامج الإصلاح الاقتصادي كمحاولة من هذه الدول للخروج من الأزمات الاقتصادية الخانقة التي عانت وتعاني منها أغلب الدول في العالم الثالث بشكل عام، والإفريقية منها بشكل خاص, لذلك فإن الديمقراطية لم تكن تعبيرا عن قناعة بأهميتها كنظام سياسي يشارك الجميع في إقامته وترسيخ قيمه وفق منظومة تسمح بالتداول السلمي على السلطة، إذ أن أية ديمقراطية لا تقبل بتداول السلطة هي في الحقيقة استمرار للهيمنة واحتكار السلطة، وغالبا ما يكون ذلك بمباركة من النخبة السياسية الفاسدة والتي لا تكترث إلا بمصالحها الضيقة وزعاماتها السياسية ، مما يجعلنا نقتنع أن الانتخابات وإن كانت هي ذروة الديمقراطية كمعبرآمن من نظام سياسي مغلق مقصور على النخب الحاكمة لا يسمح بالمشاركة السياسية أو يقيدها، إلى نظام سياسي مفتوح يتيح المشاركة للمواطنين في اتخاذ القرار ويسمح بتداول السلطة، فإنها ليست وحدها قادرة على تطوير مسارات التحول الديمقراطي المتعثر منذ ما يزيد على العقدين، ، كان ولا يزال حاسما، في فشل النخب الوطنية في بناء دولة عصرية تشبه الدول الحديثة في شكلها ومضمونها مما جعلهم يكررون نفس الأخطاء بإعادة إنتاجها من خلال تمظهرات مختلفة عبر ما يمكن تسميته(تدوير الأزمات) وهوما فاقم الأزمة السياسية أكثر فأكثر وزاداها قسوة وتعقيدا، نتيجة عجزنا عن تقديم أجوبة عن الأسئلة و الوقائع المستحدثة، فضلا عن فشل البدائل التكتيكية التي وجدت من أجل إنتاج أنظمةٍ هجينة بداية منذ 1992. مثل المحاولات التي وصفت بالتوافقيّة من أجل الحفاظ على الوضع السياسي الهش اعتمادًا على ميزان النظام القائم وليس على مبادئ مرجعية حاكمية يقتنع بها الجميع، بعد العملية الجراحية التي خضع لها النظام صبيحة الثالث من أغسطس 2005 والتي لم يحالفها الحظ في النجاح ، ثم نتائج الحوار الوطني بين الأغلبية وجزء من المعارضة المنعقد في الفترة ما بين 17 شتنبرو19 اكتوبر2011 فضلا عن حوار2011، مثل مطالبتها بتشكيل لجنة وطنية مستقلة للانتخابات، ومراجعة المدونة الانتخابية ومحاربة الترحال السياسي،وتحريم الترشحات المستقلة وتجريم الإنقلابات، هذا الوفاق والنتائج المترتبة عنه تظهر قدرة الحوار على تسوية بعض الملفات بوصفه أحد الأساليب الراقية التي يتم الاحتكام إليها عند الأزمات، دون الاقرار بأنه قدم علاجا للأزمة من جذورها، عندما عجز عن جمع كل أطراف ، وبعدم حصول ذلك فإن كل الإصلاحات تبقى في مهب الريح ، ولا أدل على ذلك من تصاعد وتيرة الدعوة للعودة للحوار من قبل جميع الأطراف( النظام والمعارضة المحاورة والمعارضة المقاطعة) فلازالت إلى اليوم تؤكد كل الجهات أنه لا سبيل للخروج من هذه الوضعية التي حشرت فيها كل الأطراف إلا بدخول فوري في حوار سياسي مسؤول لا يستثني أحدا دون وضع شروط مسبقة، يشارك فيه الجميع بهدف البحث عن حلول لتجاوز العقبات والسيطرة على الإخفاقات التي طبعت التجارب السابقة  فبمناسبة دعوة النظام الشهر القادم إلى حوار غير مشروط كما تؤكد على ذلك كل الأطراف يتجدد الأمل في معالجة الأزمة السياسية الموريتانية من جذورها مع بداية نشأة الدولة وما رافق ذلك من تشوهات للمنظومة السياسية أثناء وضع اللبنات الأولى للدولة مشكلة بالنسبة لها بذرة توتر وتأزيم ، وهذا ما انعكس بشكل خطير على جميع مفاصل هذه المنظومة بدءا بالمؤسسات الدستورية والعلاقة فيما بينها مرورا بالأحزاب السياسية وآليات إنتاج النخبة السياسية، وتعاظم دور المؤسسة العسكرية، وبالتالي طريقة تدبير الشأن العام الوطني وهو ما أفضى إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي عشناها ولا زلنا نعيشها إلى حد الساعة.

 

الا أنه ليس هناك مصير محتوم بالنسبة لشعب ملتزم بالتصدي للتحديات عندما يكون كيان الأمة مهددا فموريتانيا بحاجة اليوم إلى أن تكون أكثر وحدة وأكثر تضامنا وأكثر ازدهارا ليجد المواطن فرصته ومكانته مهما كان انتماؤه العرقي أو الاجتماعي أو الجغرافي... في دولة يمكن فيها إعادة الارتباط بالقيم الجمهورية والشرعية التي اهتزت منذ سنوات.