تأملات في الدين

-A A +A
اثنين, 2016-11-28 09:28
المحامي / محمد سدينا ولد الشيخ

نحن البشر نعلم أنه ليس منا من خلق تفكيره المتجدد في كل حين أو خلق أي جزء من كيان نفسه المادي أو المعنوي، ما يدل بجلاء على وجود خالق خلقنا كموجودات ملموسة ، وهذا الخالق يعرف في لغتنا بالإسم الأعظم (الله).
وانطلاقا من تلك المسلمة وبما أننا خلقنا من ماء وخلق جدنا آدم من طين يكون علينا أن نبحث بعقولنا عن الهدف الذي خلقنا الخالق من أجله وهو الغني الذي ليس كمثله شيئ وليس محتاجا إلينا في حين نحن مفتقرون إليه انطلاقا من تسليمنا بالحقيقة السابقة. 
إن افتقارنا المذكور إلى الله يحتم علينا دائما الاعتراف بالعبودية واللجوء إليه وسؤاله و تلك هي صلتنا به . ونستنتج من هذا أن قصورنا الفطري وعجزنا عن الاستقلال عن الخالق المدبر لجميع أمورنا يحمل رسالة واضحة مفادها أننا خلقنا من أجل عبادة من نترجى وهو و هو لا يرجانا ولا نستطيع في الوقت ذاته أن نسدي لذاته العلية أية خدمة. 
ومع أن هذا الخالق لم يخلق البشر وحدهم بل خلق جميع الكائنات إلا أن الإنسان انبرى من بين تلك الكائنات لحمل الأمانة وما تتضمنه من أداء رسالة الإعمار المادي والروحي في الأرض، وهذه حقائق كانت محل إجماع لدى الأديان السماوية قبل أن يدخلها التحريف ويدعي بعضها أن من البشر من له طبيعة إلهية رغم انعدام أساس نقلي أو عقلي لذلك.
إن جميع البشر مخلوقات ليس فيها من يتميز بطبيعة إلهية تعليه بالوراثة على بقية أبناء جنسه البشري المتحدون في أصل واحد هو : (ماء وطين) .
والله جعل من الماء والطين مادة الإعمار لما فيهما من أسباب الحياة والنماء ، ولحسن المنهجية الإلهية في تنظيم الأمور ستتكون جنان الخلد في الآخرة من ماء وطين حسب ما يأتي من الأخبار ثوابا لمن أحسن أداء أمانته عكس النار التي ستكون مآل المعذبين من المعارضين لقيام الإنسان بأداء الأمانة ، تلك النار التي خلقت من ما خلق منه الشيطان الذي يقود ذلك الإتجاه.
إن الشيطان ذي الطبيعته النارية كلف نفسه بالتدمير الروحي والمادي في الأرض واعدا حزبه بالفقر وآمرا إياه بالفحشاء ، وكانت تلك الطبيعته مساعدة في أداء دوره المختار لأن النار هي أشد المدمرات التي لا تبقي ولا تذر.
وهذا التباين في طبيعة الحال والمآل يذكر الله به كل إنسان في حياته اليومية حين تتعاطاه المسرات والأحزان وسعة العيش وضنكه والطمأنينة والخوف و النجاحات والإخفاقات ، وغيرها في اختبار لا يتوقف إلا عند الموت ، والهدف منه تعليم الجاهل وتذكير المتعلم بذلك المثال الدنيوي لينتبه إلى تباين المآلات الأخروية .
ومن هنا يتضح وجود صراع سرمدي بين فئتين ، وقدر الله أن يلتق الجمعان في ميدان حلبة الأرض ويكون أبناء آدم من الإنس وأبناء جلدة غريمه الشيطان من الجن هما مجال التنافس والإستقطاب في حملة انتخابية لا تعرف الهدوء ، ليهتدي من الجن من آثر الإعمار على طبيعته التدميرية من خلال الانحياز لحلف آدم الشاكر لأنعم الله ويشقى من الإنس من آثر التخريب على طبيعته الإعمارية لأتباعه نهج الشيطان الجاحد لأنعم الله.
ولما كان الشيطان عدو الله المارق ليس خالقا وإنما هو مخلوق فإنه لا يستطيع أن يكون ندا لله الخالق ولذلك خلق الخالق في كل فئة من مخلوقاته أندادا لذلك اللعين الجاحد لأنعم الخالق عليه ، وقد اختار من بين البشر لتولي تلك المهمة الرسل وجعل خلالهم معاكسة لخلال الشيطان حيث جمعوا كل الفضائل عكس الشيطان الذي جمع كل الرذائل وسخر نفسه ووقته وجهده للدعوة إلى ارتكابها ولهذا عصم الرسل من تأثيره عليهم فكانوا لا يأتون الخطايا التي يدعوا إليها ذلك اللعين وعصموا منها ليستطيعوا أداء مهمتهم في قيادة جحافل أعدائه من جند الله على الأرض.
إن قيادة جند الله المعادي للشيطان على الأرض تجعل الرسل مبشرين بالرسالات التي بعثوا بها إلى فئات البشر مبينين أن الله خلق البشر لمعاداة نهج الشيطان وكلفوا بالعبادة وأنه ضمن تلك العبادة أداء أمانة الإعمار المادي والروحي في الأرض وما تتطلبه من تحقيق العدل والمساواة ،ولهذا يستحيل أن يستخدم جوهر تلك الرسالات لتجسيد رسالة الشيطان سالفة الذكر ،لأن الله يريد الإعمار ولا يريد الخراب ويريد سلطان ملك لا سلطان هلك.
ومن خلال ما سبق وبمراجعة تعاليم الديانات السماوية كافة ستجدون اتحادها وإجماعها على المبادئ السالفة ، وهذا الإجماع هو ما يبرر كون ( دين الإسلام) يلزم أتباعه بالتصديق بصدق الرسل السابقين لأن مهمتهم الأساسية تتشابه ومهمة رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وسلم ) الذي هو آخر نبي ورسول ، والذي حمل رسالة الإسلام التي جاءت ناسخة لكل الديانات السماوية .
وربما يستغرب البعض هذا القول في موضوع قولنا بنسخ رسالة الإسلام للديانات السماوية التي سبقتها ويعتبره تعصبا منا لا حقيقة علمية راسخة وذلك قبل أن يعمق القائل به نظره في ظاهرة تناسخ الديانات السماوية ، تلك الظاهرة التي تعني تبادل الديانات للأدوار عبر الزمن وهي الديانات المتحدة في المصدر و الهدف والمضمون.
وقد سن الله تناسخ الديانات حتى لا يكون الدين حكرا على عرقية أو جنس أو زمان أو حضارة من أجل أن يعذر جميع البشر وينذروا ليودوا دورهم في محاربة الشيطان ، ولذلك كان كل رسول حين يموت ويموت الأنبياء المتدينون بديانته و تبدأ الإعوجاجات تظهر في العقيدة وفي الفقه يرسل الله رسولا جديدا برسالة تكون ناسخة لما قبلها حتى يعود البشر إلى المسلك الصحيح، إلى أن وصل الدور إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا توجد نبوءات تحت رسالته فكان آخر الأنبياء والمرسلين.
وكان جوهر كل رسالة يتضمن عقيدة وفقه وقد تحيل رسالة من تلك الرسالات في أحكامهما إلى ما جاءت به رسالة أخرى سابقة لها، و من الضروري معرفة العقيدة لأنها تمثل المفتاح الذي يدخل به الإنسان إلى معرفة الخالق وصفاته وحقوقه وملئه الأعلى وكتبه ورسله ووسائل ترغيبه وترهيبه كالجنة والنار ، بينما يتعلق الفقه بقواعد العبادة ، ونظم المعاملات العامة والخاصة التي تتطور لتشمل العلاقة بين جميع أفراد المجتمع وبين الحاكم والمحكوم وهي في أغلبها أمور لم يرد فيها نص مقدس فيستنبط علماء الدين أحكامها منطلقين من مبادئ الأمانة ومستحضرين ذلك الصراع السرمدي الذي قد يزل قدما بعد ثبوتها فيستنتجوا الأحكام حسب ما تمليه المصالح المرسلة الآنية .
وتمشيا مع هذا المنهج الثابت بني الإسلام على خمسة أركان :1)- أولها يلزم المسلم في مجال العقيد أن ينطلق حين إسلامه من المسلمات لأن المسلمة هي نقطة انطلاق العقل البشري ولا يمكنه الإستقلال عنها لكن يمكن أن يتخلى عن مسلمة لأخرى تزحزحها.
وعلى ذلك الأساس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذه الشهادة تفيد التسليم لا الاعتقاد ، أي تسليم قائلها بأنه أخذ ما جاء به الرسول محمد (ص) من فقه وعقيدة كمسلمات وأنه يقبل أن يطبق عليه ، مثل ما يفعل مواطنوا الدول الحديثة والمهاجرون إليها من تسليمهم بجميع قوانين تلك الدول وقبولهم الرضوخ لها دون أن يكون أي نص من نصوصها تم التفاوض معهم عليه ، وهنا ننبه إلى أنه يظهر من حين لآخر أن الإسلام انطلق من المسلمات لأنها هي التي تحدد حدود الذهن البشري فمن دون المسلمات لم يكن ليوجد العقل البشري أصلا.
وهذا الركن هو الذي تدخل تحت تصنيفه جميع أحكام الشريعة إلا ما خ منها بتصنيف مستقل في ركن خاص كما سنبين في ما يلي .
2) الصلاة : وهي الصلة بين العبد وربه ما دام العبد هو الفقير إلى ربه كما بينا سابقا وفيها يطلب العبد ربه الرحمة به ويسأله حاجاته، ولذلك شرعت في شكل خاص حددت لها فيه شروط وأركان وسنن ومستحبات وأداءها في الجماعة أفضل حيث يصطف المصلون خلف الإمام كالجند المؤتمر بأمره في مظهر يدل على تعاون المسلمين في حرب الشيطان .
وهي واجبة على كل من شهد على التسليم الشهادة المذكورة في الركن (1) حتى ولو لم يكن مقتنعا بالإسلام قناعة إيمانية ، وفرضها على من دخل العقد الإجتماعي للمسلمين يتشابه مع ما تفرضه الجيوش الحديثة على منتسبيها من مصطلحات تعني كل منها حركة عسكرية معينة لا بد من امتثالهم لها بصفة تلقائية دون نقاش وإلا عد الجندي الرافض لها متمردا ، فالصلاة إذا لها شكل ومضمون لكل منهما معانيه وأهدافه البعيدة.
3) الزكاة : وهي حق في أموال الأغنياء فرضه الله للفقراء يصل نسبة 2.5% سنويا وهي صدقة تصرف للفقراء ولتسديد ديون الغارمين من من أرهقتهم الديون ولمساعدة المستعبدين على التحرر ، كما قد يستخدم جزء منها عند الحاجة لتسيير الشؤون العامة للدولة .
وهي مظهر من مظاهر التضامن الإجتماعي والتشارك في أداء الهم العام ، كما أنها أيضا مظهر من مظاهر التضامن الثنائي بين الفرد والفرد والأخوة بينهما تذليلا للصعوبات التي قد تعيق تأدية أحدهما لالتزاماته وذلك من أجل أن يبقى متمتعا بشخصيته ومكانته في المجتمع حتى يحط الفقر ونوائب الدهر من مكانته ما دامت أسباب الإفتقار والغنى والقوة والضعف خارجة عن سيطرته.
4) الصوم : وهو مثل الصلاة في ربط الصلة بين العبد والرب حيث يدع العبد طعامه وشرابه وشهوته تقربا لله، كما أنه يروض على الزهد في الدنيا، زيادة على كونه نوع من التدريب العسكري اللازم في حرب الشيطان وجنده. 
5) الحج : وهو صلة كذلك بين العبد والرب ومظهر من مظاهر التعاون في حرب الشيطان والتلاحم للتحقير به والتضحية في سبيل ذلك بالغالي والنفيس ، كما أنه رمز من رموز وحدة الديانات السماوية لما فيه من سير على سنة النبيين والرسل كإبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم فضلا عن ما يدل عليه من ارتباط المسلمين بعاصمة واحدة وقبلة واحدة هي القبلة نفسها التي يوجهون إليها وجوههم 5 مرات في اليوم أثناء الصلوات الخمس المفروضة ، فليست لهم قبلة سوى بيت الله الحرام بمكة . 
ويلاحظ أن ثلاثة من أركان الإسلام المذكورة يتطلب الدخول فيها طهارة قبلها وهي : 
(( الشهادة، والصلاة، والحج )) ، وهذه الطهارة تكون إما بالماء أو بالتراب لتلاحظوا أن ما تتم به الطهارة هو المادة التي خلق منها الإنسان أصلا ، ما يعطي للطهارة بعدا روحيا عميقا . 
وكان مصدر الحرب السرمدية بين أتباع الشيطان وأتباع الرسل ظهر حين حسد الشيطان آدم على ما كرمه الله به وهو الحدث الوجودي الذي واكبه تدخل الشيطان للرب في تدبير شؤون ملكه حين عارض إنعامه على آدم .
عندها يئس الشيطان من رحمة الله الذي لا قبل له به مركزا جهوده على حرب حملة الأمانة التي تحمل بها الإنسان الذي غره الشيطان في أول وهلة عندما نسي أن رزقه مضمون دون أن يضمن له الرب إباحته ، وبذلك أصبح جمع متاع الدنيا واحدا من أشد وسائل الشيطان فتكا في مواجهة حملة الأمانة. 
فتصارع أتباع الديانات السماوية من أجل مصالح سياسية أو اقتصادية ترجع في الأساس إلى تك الأسباب رغم أن كل الديانات رغم الإختلافات المذهبية والتحريفات يرى كل منها أنه جامع للحق والحقيقة ومانع لوجود غيره من الديانات الأخرى .
وهو الموقف نفسه الذي قد تتخذه طائفة دينية ضد إخوانها في نفس الدين لمبررات تعود إلى أحداث سياسية حدثت بعد اكتمال الدين وصعود روح النبي إلى الرفيق الأعلى وخير مثال على ذلك الصراعات بين طوائف المسلمين .
وبذلك يصرف الدين عن وظيفته ويستخدم كوسيلة للسيطرة أو التحريض حسب مصالح المتحاسدين حضاريا ، ذلك التحاسد الذي لا صلة له بمقاصد الشرائع السماوية وإنما هدفه فوز الغالب بمركز الإنسان الأخير الذي ينتهي عنده التاريخ ليلتهم كل مخزون الأرض من الأقوات والأرزاق الأخرى حين ينهزم حملة الأمانة أمام كيد الشيطان وحبائله النابعة من أمراض القلوب وحب الدنيا .
إن أتباع دين الإسلام وأتباع الديانات السماوية الأخرى ينبغي تذكيرهم - قبل أن تستأصلهم تلك الأطماع - بأخوة تجلت في قواسم مشتركة كثيرة تعطي أفضلية عند المسلمين لمعتنقي الديانات السماوية على غيرهم ، وهي القواسم التي يمكن استخدامها لتحقيق السلام بينهم وبين بقية البشر لأنها تحمل رسالة عدل تمثل بديلا لقانون الغاب الجاهلي الذي ساد حين ضعفت المركزية المضادة للشيطان ونهجه . 

نقلا عن صفحة الكاتب