ولد داداه ﮔـاس الحبس"!

ثلاثاء, 2016-11-29 09:24
بقلم/ م. محفوظ أحمد

رغم مآخذنا الكبيرة على الرئيس الأستاذ المختار ولد داداه ـ رحمه الله ـ وأن كنا في عهده لا نرضى عن سياساته... فلم يكن لنا بد من الاعتراف يومئذ، واليوم خاصة، بأنه جمع عدة ميزات نادرة: الطموح، والصبر، والصدق، واللين والصرامة. بل العقل والعلم.

 

كان سعيه لفكرة ووحدة واستقلال الدولة، قبل قيامها، يوازي لدى البعض مسا من الجنون! 

فالناس من قبله كانوا قسمين رئيسين ونِصفا!: 

 

* قسما يعادي النصارى ويجاهدهم، وقد ورثته طبقة سياسية لها ثقافة عصرية، ولكنها لم تدع إلى الوحدة ولا إلى الاستقلال الوطني، إلا متأخرة، ومنافسة (له) وحينها انقسمت بين فريقين أحدهما مع الاستقلال (يسار بوياﮔـي) والآخر مع الانضمام إلى المغرب؛ مما دفع فريقا آخر للدعوة إلى الانضمام لـ"مالي".

 

* قسما يهادن النصارى ويكاتبهم، ويتمسك بما جلبوا من الأمن والمصالح والمباهج... ولا يرى الاستقلال عنهم إلا ضربا من المغامرة والعودة إلى "السيبة" الرهيبة!

 

* أما "النصف" فكانوا ثلة من الآخرين يسعون إلى إقامة دولة مستقلة؛ ولكنهم لا يملكون المقومات المادية والبشرية، ولا الأسس التقنية، ولا الوحدة السياسية... التي تساعدهم على تحقيق ذلك. وكان من أقوى هؤلاء ثقة بالنجاح، وأصبرهم على العمل من أجله: الأستاذ المختار ولد داداه رحمه الله.

 

وعلى الرغم من بُعد ولد داداه عن الإقصاء والتمييز العنصري، وانفتاحه على الإخوة الزنوج، الذي تغذيه ثقافته الفرنسية وتواصله مع أعيانهم ومثقفيهم، فقد كانت نظرته العميقة إلى موريتانيا هي أنها "أرض البيظان" (وبالمناسبة فقد استعمل الفرنسيون هذا المصطلح اسما للبلاد فترة قبل ذلك).

 

وهذا ما يفسر مطالبته المبكرة، قبل الاستقلال، بانضمام "الصحراء الغربية" إلى موريتانيا باعتبارهما بلدا واحدا وشعبا واحدا؛ وهي حقيقة تاريخية واجتماعية وجغرافية لا شك فيها أبدا.

 

اليوم يبدو ولد داداه ضحية مستباحة ـ والحي قد يغلب ألف ميت ـ لحالة الإقصاء والجحود والتضليل التي فرضتها السلطات العسكرية، بمختلف أحكامها الانقلابية المتعاقبة (باستثناء نسبي لفترة المرحوم بوسيف الخاطفة).

 

فقد أزيح الرجل الكبير بشكل غير أخلاقي. واستنكَحَت العسكريين "عقدة" منه، امتزج فيها الشعور بالذنب وبالدونية؛ خاصة أن الضباط الكبار "آباء الجيش الوطني" رفضوا أصلا المشاركة في الانقلاب عليه، باعتباره "خيانة" وسوء مهنية (مثل فياه وبوسيف وبونا مختار...).

 

وكانت النتيجة المستمرة، إلى اليوم، تشويه صورة الرجل، وكفـرَ دوره الحاسم، وتغطية نجاحه النادر وكفاحه المرير، في ظروف الفقر المدقع وانعدام الوسائل البشرية والمادية لإنشاء دولة من نقيضها!.

 

كان "مُركب النقص" هذا حاضرا في كل انقلاب عسكري، يبدأ بالوعود البراقة والأماني الوردية وينتهي بالفشل والسقوط...

 

 وانتاب الأحكام العسكرية في العموم شعور دفين بأن التقليل من شأن المؤسسين المدنيين ونجاحاتهم المشهودة، هو السبيل الأسهل المتاح لخفض الطموح الوطني، وتغطية الفشل المتلاحق الذي أصاب مشروع الدولة بالشلل وقلل من شأنها، وحط من احترامها في الداخل والخارج!.

 

ومن الخطأ هنا إلقاء اللوم والمسئولية على الحكام العسكريين وحدهم؛ لأنهم في الواقع كانوا ـ على الدوام ـ "واجهة" أطماع وصراعات وإغراءات السياسيين المدنيين الذين كان بعضهم خصوما معارضين للرئيس ول داداه وسياساته، أو مجرد إمعات انتهازيين. كما يدل عليه استمرار بعضهم في أدواره السيئة في الحكومات العسكرية؛ معها تارة، ومع الانقلاب عليها تارة أخرى...!

 

وهكذا ولدت ونشأت أجيال من المواطنين لا تعرف عن شخصية المختار ولد داداه ورجاله، ودورهم "البطولي" في إنشاء وتوحيد دولة مستقلة، لم تكن لها وسائل حياة ولا مقومات بقاء، بسبب المصاعب الداخلية والتهديدات الخارجية!

 

فعندما تريد أن تنشئ دولة مستقلة يشار إليها، وليس لديك سوى شعب بدوي قبلي تتقاذفه أهواء "شيوخ" متفرقين وصراعات أمراء متنافسين...ألف الرحيل والافتراق، عبر مساحة أكثر من مليون كلم لا توجد فيها طريق واحدة... وليس لديك عاصمة ولا جيش ولا مؤسسات ولا  أطر ولا عمال مدربون... ولا أي موارد على الإطلاق... والجيران يطالبون ببلدك ولديهم كيانات مدنية قوية ووسائل مغرية... كيف سينجح الطموح؟!

 

نقل الرئيس المرهق والمصدوم من حرب جائرة أوقعه سوء التقدير أو سوء الحظ في أتونها التي استغلت مفاجأته وضعف كيانه... نقله "جنده" إلى سجن انفرادي هنا، وسجن انفرادي في أقصى نقطة جغرافية... رغم التأكد التام من تسليمه، بل ربما ترحيبه، بالخروج من الحكم!.

 

وبعد "الانفراج" ونجاح ضغوط الأصدقاء العرب خاصة في إنقاذ العجوز من السجن الذي اعتل فيه، ظل في أحسن الأحوال، هو ونظامه وفترته، موضع "حظر" صارم في وسائل الإعلام، وتجاهل "رسمي" مطبق في الحياة العامة، عبر مختلف الأنظمة العسكرية.

 

ولعل أول من حاول فك هذا الحظر هو الرئيس الحالي الذي ذَكره علنا وخلع اسمه على أحد الشوارع الكبيرة في العاصمة. إلا أن ذلك لم يعتم أن ظهر أنه ليس توجها حقيقيا لفك "الحصار" عن الرجل؛ بل كان بالدرجة الأولى تكتيكا أملته ظروفه السياسية الحرجة بسبب انقلابه على رئيس شرعي مدني منتخب!

 

وبفضل الحريات العامة التي حققها النظام والتزم بها ـ مشكورا ـ لم يعد الحصار السياسي والإعلامي المطلق مطبقا على الفترة "الداداهية". إلا أنه استمر عمليا على المستوى الرسمي. قبل أن يأخذ أبعادا جديدة سلبية، بدأت بخطوة حكومية مباشرة، هي سحب الاعتبار المعنوي والمادي عن "هيئة المختار ولد داداه" التي تديرها أرملته. ثم جاءت "حملة المقاومة الوطنية" التي يتبناها النظام بمثابة "حرب" غير مباشرة على الرجل ونظامه، بل تجاوزته إلى الرموز الوطنية للدولة، التي كان قد اختارها أو أقرها إبان التأسيس!

 

وقد أتاحت هذه الحملة لعدد غير قليل من الأشخاص والجهات ممن لهم مآخذ سياسية، أو حتى شخصية، على الرجل ونظامه أن يحدوا ألسنتهم ويشحذوا أقلامهم في الرجل وسياساته... بل وشخصه الراحل أحيانا. 

 

ومع غرابة هذه الحملة القوية وغموض أهدافها الحقيقية، يحاول النظام وأنصاره نفي وجودها، مستدلين بترحم الرئيس على المختار بن داداه، وبتعيين نجله سفيرا، وابن أخيه وزيرا...

 

لكن يبدو أن كل ذلك إنما هو درء للحرج، ومحاولة لإثبات "البراءة الشخصية" من أي تجريح "شخصي" للرجل وأسرته.

 

والحقيقة أن الأمر لا ينبغي أن يوضع في أي قالب شخصي، سواء بالنسبة للرئيس الحالي أو بالنسبة للراحل. بل الأمر يتعلق بمستوى النظر إلى فترة حاسمة وفريدة من تاريخ البلد، هي تلك التي شهدت ميلاد واستقلال هذه الدولة التي نصول ونجول في أرجائها، ونتحكم بمواردها، بل ونبني بسلطانها أمجادنا الشخصية أكثر من أي شيء آخر...!

 

وفي النهاية فإن "التأسيس"، أي تأسيس إنما يقع مرة واحدة، ولا يتكرر؛ حتى لو جاء ما هو أعظم منه وأضخم!

 

ويبقى هناك سؤال محير: الألسنة الكثيرة والأقلام العديدة الشاهدة أصلا... لماذا تظل ساكتة هامدة؟! هل تعتيم الإعلام الرسمي وشبه الرسمي هو السبب، أم أن "شيئا آخر" يخرسها؟؟!!