من المفارقات العجيبة حقاً أن يكون الحكام في الديموقراطيات الحديثة يشكلون جزء من وعي الشعوب للعلاقة الطردية الناتجة عن العملية الإنتخابية والإجراءات القانونية التى تلي هذه العملية بعد فرز صناديق الإقتراع ، ذلك أن العسكرتاريا السياسية والدكتاتوريات الإيديولوجية بشكل عام تضع في أولوياتها كسر النشاط الحزبي والحقوقي
دون المساس بالقالب الرمزي لهذه التشكيلات المدنية ، فتنعدم هذه القوى ذات المطالب الجادة والمشروعة بين مؤيدين قدّسو مصالحهم الشخصية ومعارضين حرمو من تفعيل حقيقي لوسائل المعارضة ، ومع تطور خزعبلات الزمن أستطاعت معظم هذه الشعوب حديثة العهد بالمبادئ الديمقراطية أن تضع نقاطا وإن على حروف مبعثرة في خضم هذ الإلتباس المفتعل ، سواءً عن طريق الرفض العلني المتمثل في ثورة الوعي العام أو الإستفادة من تجارب الماضي في أكناف هذه الأنظمة .
ولم تكن موريتانيا بمعزل عن هذ الحراك النمطي لعقلية هذه الشعوب على الأقل من حيث التجارب السياسية والدساتير الوضعية ، تلك التي لم تكن يوما نتاجا وطنيا بقدر ما كانت نسخا ولصقا متفقٌ عليه!
فبعد ماشهدته الفترة الطائعية من تهميش لكل صوت مختلف ،ومن تكريس للعمامة القبلية البائدة ،والمتاجرة بالقضايا الوطنية ومن سطوة الإعلام الكاذب ، بعد تلك الفترة التى شيّع إنقلابيون آخرون جثمانها, بدى فعلا وكأن الوضع قد تغير إلى الأحسن ولو بفواصل بعد الصفرْ ، خصوصا على مستوى الحريات العامة والممارسة السياسية ، وكانت المؤسسة العسكرية قد عانت كثيراً بعد الإنقلاب الأخير على شرعية ولد الشيخ عبدالله التي كانت هي نفسها أي المؤسسة العسكرية سببا مباشرا في وصوله لسدة الحكم ، عانت هذه المؤسسة من صمود مختلف القوى المدنية في وجه فكرة الإنقلاب ، وكان الفرج أيام تلك الأزمة على يد ممثلي الغباء السياسي من أطر وركائز المعارضة في " دكار " ...... حيث استطاع الجنرال خاوِيَ الأمعاء أنذاك أن يكسب رهان التواقيع ليظفر بمأمورية مبهمة بالنسبة لمراقبين كثرْ ، وسرعان ماتبين للمواطن الموريتاني المتتبع أن الكارثة الحقيقية لم تكن ولد الطائع ولاحتى ديباجة العسكر، بقدر ماهي طبقة سياسية راكدة تصلح لكل شيئٍ سوى العمل الوطني ، أيعقل أن حزمة من الأحزاب ذات الصيت الذائع بماضيها المعارض والتي تضم في مكاتبها التنفيذية خيرة عقول موريتانيا
وتمتاز قواعدها الشعبية بطاقة شبابية واعدة ونشطة ، أيعقل حقاً أن تنعدم رؤيتها وتفشل جميع إستراتيجياتها لدرجة أن تصبح " المقاطعة " هي ملاذها الآمن ؟ خمس سنين والجنرال يبني شعاراته الرنانة من ضعفكم ياسادة ، وحين التضحت خطوط الوهن والإرهاق على جبين المنسقية ماكان للمولاة إلى أن تسلط الضوء على تفكك البيت الداخلي وتشرذم الخطاب الرافض لتسيير الأب الروحي لهذه الموالاة ، نعم خمس سنين مضت فيهن ظلت المعارضة تلهث وراء زلات الرجل دون أن تقدم رؤية ذاتية متماسكة لإقناع هذ الشعب بمشروعها المزعوم ، وكأن أخطاء زيد هي حسنات لعمر !!! أولم يتضح بعد لهذه المعارضة أن الشعب الموريتاني لا تعنيه تلك الفوارق الشاسعة بين " المعاهدة " و " المنتدى " ولا يلقي بالا لسلوك حاكميه ؟ بل لازالت تفاصيل أيامه الشحيحة ومستقبل أبنائه هي شغله الشاغل كسائر الشعوب النامية ، أما مشاريع القوانين وإستحداث المصالح في الإدارات الحكومية فتلك هي مايسميها هذ المواطن أوذاك بنشرة الأخبار ، والشعوب المغلوبة على أمرها غير معنية برفاهية التحليل والإستنباط ، فالمعارضة إذا في مقاطعتها " للتشريعية " على الأقل حرمتنا من سجال مشاريع القوانين ومن سب الحكومة تحت قبة التحصين ، وفي مقاطعتها للرئاسية حرمتْ عزيز من نشوة النصر وهو الفخور بسيرته الذاتية .
لإن كانت اللعبة الديموقراطية واضحة حاسمة من حيث الشكل الدستوري فإنها من حيث المضمون الفكري لازالت عصية الفهم والممارسة على أحزاب لم تدرك بعد أن إستقطاب الجماهير لايكون موسميا، ولايمكن تحقيقه بإتخاذ القرارت الإرتجالية بين الحين والآخر ، كما لم تدرك هذه الأحزاب أن مواد الدستور الحامي للسيادة والكيان لايمكن العمل خارج إطارها على أي مشروع سياسيٍ كان ، فالمطالبة "بالرحيل "تليق بشباب ثائر سئم صراع الأيام على عتبة أحلامه ولكن مطالبة الأحزاب به كفر بمفهوم الدولة وتجاوز صريح لمجموعة القوانين الناظمة لشكل الحكم وطرق الوصول للسلطة ، كما أن السياسة ليست غاية في حدِّ ذاتها ولذلك حين يتعلق الأمر بالوحدة الوطنية أو قداسة الجيش الوطني أو المشاريع الحيوية فإن المزايدات السياسية والكسب من وراء هذه المزايدات هو نوع من العبث بمستقبل الوطن ، والجدير بالذكر هنا أن العمل من أجل الإطاحة بهذه العسكرتاريا يبدأ من اللحظة وبإتخاذ مشرع سياسي واضح ومتماسك البنية تترجمه نشاطات حقيقية بعيدا عن العمل "الخيرى" ، أما تجديد الطبقة السياسية شعارهم الجديد فهو أمر تتكفل به الشعوب ولا يصك بالقوانين والقوالب الجاهزة ، فلتكن مأموريته القادمة حملتا لنا يبدأ العمل فيها بوحدة الخطاب السياسي ووضوح الرؤية المستقبلية لهذ البلد عسى أن يكون كرنفال الأمس هو " تــنـصـيـبــه الأخــير" .
محمد الشيخ باب أحمد
باحث في مجال العلوم السياسية ، الولايات المتحدة