يلوك الإنسان المسلم في يومياته المترعة بالتناقضات عباراتٍ يُحيرني كيف تسللتْ دلالاتها السلبية إلى بنياننا الفكري حتى أصبحت مُوجِّهة لمواقفنا في كثير من الأمور المصيرية. من تلك “الأساطير المؤسسة” عبارة يكاد يجمع رواتها أن أول من فاه بها ابنُ عساكر رحمه الله. فقد حذر في كتابه “تبيين كذب المفتري” قائلا: ” إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في منتقصهم معلومة”. وقد صدق الشيخ، لكنهم ليسوا وحدهم في ذلك.
أصبحت هذه العبارة سيفا مصلتاً على أي منتقد لمن قطع شوطا متقدما في تعلم العلوم الشرعية إلى أن اشتهر بها وبوصفه “عالما” بغض النظر عن مدى اتساق علمه وعمله، ومدى تصالحِ علمه الذي بين جنبيْه وسلوكه المتعلق بحياة الناس.
فأصبح الإنسان المسلم إذا رأى لصاً في مسلاخ عالم، يُسوّغ الفظائع من نهب لأموال المسلمين وهتكٍ لأعارضهم وهدرٍ لكرامتهم، لا يستطيع نقده لقدسيته. وإنْ نقده سلقه أولُ من يلقاه بلسان حديد قائلا: دعك من الرجل يا أخي فلحوم العلماء مسمومة!
ذاك “منطق” مدخول ورأيٌ فائلٌ خطر.
فالنصوص الشرعية طافحة بنصوص تشير إلى أن العلماء غير العاملين هم أول من تسعر بهم جهنم لتضاعف درجة مسؤوليتهم أمام الله تعالى. فكيف يستقيم أن يكون أول من تسعر به جهنم يمتلك شيكا أخلاقيا أبيض يمنع نقدَه بشكل نهائي.
فإذا كان مجرد حفظ معلومات شرعية دون اتصاف برسالتها أو دفع لضريبتها يكفي ليصبح لحم المرء مسموما فأنا دالّكم على شيخ يحظر نقده حظرا باتا: الشيخ غوغل؛ إذ لا أعلم على ظهرها أكثر محفوظات منه في العلوم الشرعية. واخرجوا لي من شئتم من جامعة إمامكم أو من
أزهركم أو من محاظركم.
فهذا الشيخ الوقور لا أسأله عن حديث -في ساعة من ليل أو نهار- إلا أصله؛ مصححا أو مضعفا، ولا أستفتيه إلا أجاب مُطنباً كأنه البخاري أو ابن شهاب.
نعم، إن لحوم العلماء مسمومة لكنها لا تختلف عن لحوم البقالين والحمالين من المسلمين. فلحم أي مسلم وعرضه مسمومان. فإذا اغتبتَه غيبة متعلقة بشخصه فقد أكلت لحم أخيك، سواء كان عالما أو بقالا أو سائق حالفة ركاب، أو بائعا متجولا. فوظيفة المسلم لا دخَل لها في حرمة عرضه.
أما إذا كان المسلم يعمل “شيخا” يفتي في أموال الناس وأعراضهم -أي في شؤونهم السياسية- فإن الحديث عن مواقفه ووزنها بميزان الشرع والولوغِ في نقد مواقفه إن لم يكن واجبا فسنة حسنة على الأقل، ولا علاقة لها بلحمه المسموم بدرجة تسمم لحوم البقالين والحمالين من المسلمين كما أسلفت.
كيف يستقيم أن يتحول المسلمون إلى طبقتيْن: طبقةٍ كهنوتية تفعل ما تشاء ولا يجوز نقدها ألبتة، وطبقةٍ أخرى تُنشر بمناشير النقد دون حرج ألبتة.
ينبغي التمييز، إذن، ما بين حرمة لحوم المسلمين والبشر عموما، إذ لا تجوز الغيبة ولا النميمة ولا القذف بحق أي أحد.
لكن لا حرج من التعرض بالنقد الحرِجِ لأي شخصية تتصدر المشهد العامّ وتجيز وتبيح وتشرع مُحرمةً ومُحللةً. فنقد مواقف هذه الشخصيات –سواء كانوا “علماء” شرعيين أو خبراء فنيين أو مديرين تنفيذيين واجب كفائي، ولحومهم – أعني مواقفهم- عسلٌ مصفى، لا سمٌ زعاف.
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيخبرَ المتدثرين بعباءات المشيخة، المهطعين تماوتاً أن الأمة لا تحترمهم إلا بقدر احترامهم لها ولدينها الذي يكرر خطباؤه كل جمعة منذ 1435 عاما: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظُكم لعلكم تذكّرون”.