
المرفق العام و ثالوث القبيلة و الشريحة و الإثنيةبعيد الاستقلال بدأت على الفور بعض القبائل و الإثنيات و الشرائح تدرك أهمية التموقع مبكرا في جسم المرفق العمومي الوليد على خلفية المزاج و الموهبة و الاهتمام و رغبة الاستحواذ الجامحة إرثا عضالا من رواسب
عقلية الماضي القاسي و الفالت من حوزة و منطق دين الإسلام العادل السمح.لن يفوت المتتبعُ اليوم بالعين الفاحصة لسير مرافق و مؤسسات الدولة الخدمية أن يلاحظ كثافات قبلية و إثنية و شرائحية متباينة و منتشرة و راسخة داخل المرافق الخدمية من إدارات و مؤسسات و مصالح و كأنها قُرى محصنة و أحياء ثابتة يتجمع أفرادها بداخلها، يتدفئون و يستظلون بحكم القرابة و الأواصر و الانتماء. وهي الوضعية المريحة لأفراد هذه القبائل أو الإثنيات أو الشرائح ـ التي أصبحت تتسمى بها من دون حرج هذه المرافق ـ لتقديم الخدمة الأولى المجانية لذويهم في دائرة الانتماء العام و الجهوية الأشمل و لو بدرجة أقل، و ليتبادلوا الخدمات و يحافظوا على المصالح المتبادلة دون سواهم. و إذا كانت الغلبة للبعض في المرفق الصحي مثلا حيث التسهيلات و العناية و الولوج إلى العلاج و الدواء بأيديهم لأهليهم، فإن المستفيدين من الخدمات السريعة و تزوير الحواسب و مراجعة الفواتير و منع انقطاع التيار الكهربائي أو الماء فلأفراد قبائل و حلفائها و شرائح أخرى بفعل عناصرها المهيمنين عددا و تموقعا في المؤسستين. و الأمر يجري على جميع المؤسسات في البر و البحر، من توزيع و بيع المحروقات و الغاز، و المواد الغذائية المجانية و المعهودة للبيع، و القطع الأرضية السكنية و الزراعية و العقارية الواسعة، و المعهد التربوي عند بيع و توزيع المطبوعات، أو التحويل و الترقية في الإدارات التعليمية و غيرها. و الأمر ساري كالنار في الهشيم داخل مصالح تسليم التراخيص للتنقيب عن المعادن أو السياقة أو المنح التعليمية أو دخول الموانئ و المطارات و مدارس الامتياز و غيرها للوساطة سبيلا إلى العمل و التعيين أو السفر للاستشفاء أو الإيراد أو التصدير أو لتأسيس حزب أو منظمة غير حكومية. لقد تفرق دم أقوى القبائل حضورا و أقواها نفوذا في جسم المشهد العام لسير البلد و الشرائح الأكثر تنظيما و اهتماما على أرض الواقع الحركي حتى لا يكاد يخلو مرفق من تواقيع قبلي أو وصم شرائحي أو تميز إثني بالاسم الصريح يستحيل المرور دونه حتى باتت الخريطة معلومة الحدود بالتعريف و مغلقة الحواجز بمتاريس التفرد بالقوة (chasses gardées) أمام الكيانات و الإنتماءات الضعيفة إلا من استكان منها و خفض جناح الذل من القهر للأقوياء.لا حصانة إلا أن يعتدل التعليمبشهادة الجميع فإن التعليم، المعول عليه في عملية بناء النفوس و تحصينها بنوره من منزلقات الظلامية و بعطاءاته الجمة من آفات الفقر و الإقصاء و الغبن، لا يعرف التحسن المطلوب بإلحاح على الرغم من الجهود التي أعلن عنها و تمثلت في حراك دون المستوى و وعود أكبر من طاقة القدرات المتوفرة بشريا و علميا و تربويا و ماديا من ناحية، و في التحفز الذي حدا لوهلة عبرت كوميض برق بالأسرة التعليمية إلى محاولة بذل قصارى الجهود لتشخيص و تحديد مكامن النقص و مواطن الخلل في الترسانة التربوية و جسم المربين و الهيكلة المدرسية من ناحية أخرى قبل أن تولي القهقرى؛ تعليم من المعلوم أنه لب مسألة قيام الكيان و ماهيته و المَعبر الوحيد للتحول إلى الدولة التي لا تزال "الغائب" الأكبر عن الأذهان في ثلاثية أبعادها مفهومها و تقديرا و بناء. و لأنه إذا عرف الداء سهل الدواء فإن الذي يبقى هو الإرادة الصادقة و تقديم التضحيات المواتية. إن مدارس البلد لا تقدم تعليما نوذجيا، و المعلمين و الأساتذة لا يحسون بالواجب إلا بقدر إحساسهم بغياب المعلل والحقوق لديهم، و ذوي التلاميذ في شغل المعاش عن تأطيرهم و توجيههم غارقون إلى الودجين. و بين أوجه التقهقر الثلاثة تقف فئة قليلة على تعليم أبنائها في مدارس انتقائية و أجنبية ربحية بختم المسخ و الفصل عن جسم المجتمع مسخرة لذلك المال العام نهبا و احتواء و تحديا للمستقبل القاتم... استشراف يؤكده واقع تعليم ضعيف بشقيه العام و الخاص في فوضوية التراخيص و ضعف المنهاج و تدني المستوى التربوي.قتل المواهب و وأد القرائحإذا كانت أوروبا قد تركت للفقر والموت الموسيقار العبقري "موزارت Mozart" و لم تعترف بموهبته الخارقة ـ و قد تجلت في مقطوعاته التي لا تقل إبداعا و حسنا وقوة و فرادة عن سيمفونيات "بيتهوفنBeethoven " و "جوهان باخ Johann Bach" و "فالديني Valdini" و "شوبان Chopin" ـ إلا بعد أن غيبه الموت، ما أوحى للطيار و الكاتب الكبير "سانت أكسوبري Saint Exupery" عبارته الشهيرة "إنه موزارت يُقتل Un Mozart qu’on assassine" التي باتت تقال بحق كل من لم يُمكَّن من تقديم ما يتمتع به من عبقريات و مواهب؛ فإننا نحن ما زلنا في هذه البلاد ندعي ـ في غياب أي نوع من التواضع و بنرجسية تجافي كل حدود اللياقة ـ التفردَ بالألمعية و عمق المعرفة و شمولية الإحاطة بالمعارف و الآداب في الوقت الذي لا نعترف فيه بالألمعيين بيننا و لا نقدر عطاءهم، بل و إننا نوصد أمامهم أبواب "التفتق" و "الظهور" و نمسك عنهم أسباب التعريف بهم و جمع و حبك و نشر و توزيع نتاج تميزهم، كما نسعى عن قصد و غيره حرمانهم من ولوج فضاءات "تَلَقُّفِ" عصارة الإبداع المتفرد و الأداء العلمي الرصين و المنتج الفني و الإبداعات الأدبية في دائرة الإسهامات التي تطبع بـ"ختم الوطن" و كأنه حَسَدٌ من عند أنفُسنا أو من إمعان لا إرادي بسبب تضخم "الأنا" المحكوم بالانحسار داخل أفق الضياع الضيق و حتمية الانفجار في صمت "غفلة العزلة" دون إحساس أو انتباه. كما أننا ندعي بكل جرأة وصولنا سَطحَ قَمرِ المعارف و المدنية العالمة في ظلمة ليل جهلنا الحالك بعلوم "التحليق" في الفضاء المعرفي الرحب و انحسار قدرة "البناء الذاتي". و هل من دليل على هذه الوضعية المزرية أكثر إقناعا من واقع الثقافة المشلول و صفحة المدنية المطبوعة بأساليب الفوضى التي تلامس عقلية السيبة.أين النخوة و الحلم؟أين النخوة و العفة و علو الهمة التي يتباهى بها أهل الشوكة في الملاحم الشعرية الصاخبة و النثرية الحافلة بكل قيم الفروسية؟ و أين صفات الإنصاف و الحلم و الاستقامة التي يتبارى حولها أهل الحرف بالمساجلات الكلامية يضمخها عبق الحرف السمي و ترفعها إلى ذرى البلاغة كثافةُ اللغة العارمة لتفنيد كل إرادة إلى الشراء بآيات الله ثمنا قليلا؟ أين هذا و ذاك من واقع "التماكر" إن جاز التعبير و "تصارع" الديكة التايلادية بأسلحة الغدر و المؤامرة و الضربات التحتية التي تفضحها بغزارة حال ارتكاس البلد على أيديهم و عجزه عن تجاوز "ماضويتهم" الشنيعة الكابحة و المصفدة كل إرادة عن التحليق إلى آفاق التغيير؟الوساطة الصامتة بـ"الموقع الوظيفي"و هل الوساطة الصامتة بـ"الموقع الوظيفي" إلا خرقا سافرا في جدار دولة القانون؟ حقيقة يفضحها أنه لا يكاد يُرى موظف سامي إلا منشغلا بها و حاملا وزرها لا يبالي عبر خطوط هواتفه أو جولاته المكوكية بين القطاعات و تشعباتها، في ترتيب مسعور لغزوات نفعية ذاتية أو لذويه في دائرة "المحسوبية والوساطة" منها و إليها. و هو بهذا و لهذا لا يغلق سكة الخط الساخن باتجاه "أضرابه" في القطاعات الخدمية الأخرى لتوظيف أحدهم من الأهل و الأقارب و بني الحلفاء أو إسهام في ترقيته، أو خرق العادات و النظم لاستحداث درجات له أو علاوات أو استراحات طويلة معوضة، أو انتزاع له صفقات مدرة أو ما شابه ذلك كثير مما يضر بالتوازن في المصالح و الإدارات و القطاعات، و يخل بالنظام و يكرس الظلم و يستنزف مال الدولة بغير وجه حق إسهاما في الفساد و سوء التسيير. و إذا كانت هذه الوساطة المحمومة بالهواتف و الرسائل المرمزة و الزيارة المباشرة و المجاملة النفعية بين موظفي الدوائر و المصالح و القطاعات تطال كل أوجه الحياة الإدارية و الشؤون الجمركية و المطارات، و الموانئ و كل نقاط الحدود و في العمق ناطقةً بِكُل لُغات غَدرِ "دولة القانون" و طَعنِها في الصميم. و يبقى الوصلة الأدهى و الأمر في هذه "السنفونية" المأساوية تلك الوساطة المحمومة الضاربة بـ"الرحمة" عرض الحائط التي تستهدف توجيه المرضى من الدرجة المتقدمة و المستعصية إلى العلاج في بعض مستشفيات الخارج على حساب الدولة. ففي هذا الأمر البالغ الدقة و الخطورة تخرق الأحقية و الأولوية و التراتبية ـ التي هي كلها و بمنطق الدين القويم و العرف السليم من حق الأدنى إمكانية و الأضعف دخلا و الأكثر إلحاحية إلى الاستشفاء و الأقل وساطة إلى ذلك ـ لتأول الأسبقية بفعل و منطق قوة "الموقع الوظيفي" و التمكن في دوائر القرار إلى آخرين أحسن حالا و أوفر مالا "شفاهم الله" و سامحهم.بلد المليون غائب عن مسارح الإبداعفي كل بقاع العالم تحتفل الشعوب حين تودع عاما و تستبشر بمقدم الجديد. و هي المناسبة على ظهر الفرس بين السنتين للاحتفاء بكل من ساهم بعطاء علمي أو فني أو أدبي أو سياسي أو إنساني فينال الجزاء المستحق و يرسم الدرب للمتحمسين سعيا إلى تقديم جميل مثله و رفع مكانة البلد و إثراء الحقل الثقافي و الفكري و العلمي و الإبداعي الأدبي و الفني. أما عندنا فلم تزدد رفوف المكتبات بجديد المؤلف الرصين، و لا خشبات دور الشباب بمسرحية ذات شأن أو فيلم وثائقي أو روائي يفي بمتطلبات المشاركة في عشرات مهرجانات السينما من حولنا في الفسباكو ببركنا فاسو و في المهرجان الدولي لفيلم الأحياء في السنغال و قرطاج بتونس و المتوسط في الجزائر و المهرجان العالمي للسينما بمكناس في المغرب، و لا مجال الأدب بقصائد تستجيب لمعايير الشعر الناضج و تستنهض قرائح النقاد المتمكنين، و لا براءة اختراع من أي درجة تكون، و لا جوائز تحرز خلال التظاهرات الرياضة في ملاعب و مركبات العالم الأولومبية أو من مهرجانات الفن و الأدب و الأعمال الإبداعية. فأين إذا فرسان بلد المليون... غائب عن مسارح الإبداع؟"المحاصصة" المريبة؟أترون أنه من الوارد دوام سيادة الظلم و الإقصاء و سوء تسيير العلاقات المجتمعية و أن ينتظم معها عقدُ الحياة في رتابة موات الضمير و ضعف التحول؟ أترون من الصحيح أن لا يتقاسم أهل بلد غني خيراته إلا بالتطفيف و خسارة الموازين على أسس تراتبية جاهلية لا يقرها الشرع الإسلامي الرفيع مطلقا و لا المواثيق و الأعراف الدولية؟ أترون أنه من حق الإدعائية بكل مواصفات عمى الألوان أن تظل تلقي بظلالها على مسار الأخذ بالعلم في شموليته و تطبيقاته بِجدِّ وُجوبِ النهضة و مَفروضِ الخروج من "الماضوية" السلبية التي تخدش نبل "التاريخ" و تكرس تقويض الحاضر و ضبابية المستقبل؟ أترون من الصواب أن لا يتعاطى الرياضة و يمثل البلد إلا أفراد مكونة بعينها و لا يستأثر بالتجارة و الأعمال إلا أخرى بذاتها، و أن تؤول الأعمال التقنية لمكونة بخصوصية المهارة فيها، و أما الخدمات العضلية فلفئة معلومة و الفن لشريحة، و أن السياسة الربحية المدرة للوظائف المريحة و محاذاة المال العام فلفئة غالبة هي الأخرى، و كأن الأمر كله يندرج في قالب "محاصصة" يقرها واقع التعدد العرقي و الشرائحي التراتبي بعيدا عن مبدأ الاقتسام و التوزيع العادلين للخيرات و الفرص و البناء بالعلم و الفكر و السواعد في ظل دولة القانون و المواطنة؟ هل نتجاوز الأمر؟حصيلتهم و حصيلتنارغم الصعوبات الجمة التي عانت منها دول العالم في بحر العام المنصرم إلا أن هذه البلدان لم تغفل استعراض منجزاتها و نتائج عبقريات مواطنيها فكان سيل من الابتكارات المذهلة في شتى أوجه العلم و خدمات الحياة ليرفعوا الستار بفخر و اعتزاز عن منجزات عملاقة تمثلت في طرق معلقة و قطارات سريعة جدا و أنفاق من خرسانة أقوى تحت البحار، و كذلك في غزوات متلاحقة جديدة للفضاء و تجارب علمية كبيرة و اكتشاف لقاحات ضد أمراض فتاكة كالإيبولا، و ظهور مصادر جديدة للطاقة النظيفة، و غير ذلك كثير تفخر به الأمم و تباهي و تزيد منعتها و حضورها على المسرح العالمي. و أما في هذا البلد المحير فعلاوة على أن حصيلته من الابتكار و التميز ظلت كعادتها تحت الصفر ـ اللهم ما سجل من أساليب جديدة و فريدة لنهب المال العام و تبذير مقدرات البلد حيرت العقول و عجزت عن فضحها مسطرة القوانين الكبيرة التي سنت و شرعت ـ فإن السباحة ضد تيار الحداثة زادت ضراوة و تضاعف التعلق بأستار "أمجاد أمة... قد خلت" ليَغدو عذرا عند أهل ترف فكري ضعيف المحتوى و ضبابي الوجهة.