في الوقت الذي كانت تصور فيه وسائل إعلام بعض البلدان الشقيقة الصراع الدائر في غامبيا على أنه صراع بين معسكرين : معسكر القوى المدافعة عن الديمقراطية في إفريقيا ومعسكر القوى الانقلابية المدافعة عن الدكتاتورية وهي تعني ضمنيا بلدنا ، نجح الرئيس الموريتاني بدبلوماسيته الهادئة في إصابة عصفورين بحجر واحد :
عصفور الديمقراطية والدفاع عن الشرعية، وعصفور الأمن بأبعاده المختلفة الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية :
فنفس الرئيس الذي أعلن بوضوح التزامه بمقتضيات الدستور وعدم الترشح لمأمورية ثالثة هو نفسه الذي دفع الرئيس الغامبي المنتهية ولايته إلى الخروج من الباب الآمن الذي يجنب بلده ويلات الحرب الأهلية ويحقق المزيد من الأمن والاستقرار في إفريقيا.نجح الرئيس في نزع فتيل الأزمة وفي إخراج الشر الذي أوشكت الشقيقة السنغال على ابتلاعه، السنغال التي تستعد خلال فترة وجيزة لتحقيق قفزة نوعية في اقتصادها ودخول نادي كبار الدول المصدرة للغاز في العالم .والحقيقة أن هذا الطعم الذي أوشكت الشقيقة السنغال على ابتلاعه كان سيؤدي إلى صراع طويل الأمد قد يؤثر سلبا عليها وعلى بلدان المنطقة نظرا لتضافر عوامل عديدة :
1- الموقع الجغرافي الاستراتيجي لغامبيا : المطلة على البحر (على أوروبا وعلى أمريكا الجنوبية) ، الموجودة في منطقة مليئة بالغابات الكثيفة ، المحاذية لمنطقة الساحل ، المطلة على منطقة توجد فيها دولتان تستعدان لدخول نادي كبار الدول المصدرة للغاز في العالم ويتعلق الأمر بموريتانيا والسنغال...2
- خطر قيام تحالف استراتيجي بين الجماعات الإرهابية وعصابات اقتصاد الجريمة ونحن نعرف أن ذلك البلد يوجد ضمن الدول التي يمر بها أحد الطرق المفضلة لتجار المخدرات في أمريكا الجنوبية. فمن المعروف أن إفريقيا الغربية قد عرفت خلال العقد الماضي نموا متزايدا للأنشطة الإجرامية المرتبطة بالشبكات الدولية للجريمة المنظمة وأصبحت هذه المنطقة المعبر الجديد المفضل لمختلف أنواع التجارة غير المشروعة التي تهدد أمن الأفراد والجماعات كالمخدرات والأسلحة.
وأصبحت الطريق التي تمر من غرب إفريقيا في اتجاه أوروبا في نظر تجار المخدرات في أمريكا الجنوبية من أفضل الطرق وأكثرها أمنا وأقلها كلفة من الناحية الاقتصادية.وقد تمكن خبراء الأمن من تحديد طريقين للمخدرات المتجهة إلى أوروبا هما:الطريق الغربي :
وهو الطريق المار من غينيا بيساو وغامبيا مرورا بالسنغال أو غينيا كوناكري قبل الوصول إلى مركز التجميع المؤقت في مالي - قبل حدوث الأزمة - ثم يعبر عبر بلدات في الجنوب الشرقي للجزائر محاذية للصحراء الكبرى حيث يضعف الحضور الأمني قبل أن يصل إلى الشواطئ المتوسطية عبر الصحراء ودول المغرب العربي . وتجدر الإشارة إلى أن هذا الطريق الذهبي للمخدرات يمر بثلاثة بلدان مجاورة لبلدنا.الطريق الشرقي :
حيث ينتقل الكوكايين الذي يصل إلى خليج غينيا عن طريق غانا ثم التوغو والبنين ويمر عبر نيجيريا في أغلب الأحيان ثم ينتقل إلى ليبيا عبر النيجر وتشاد ، وفي جزء أقل منه عبر مصر.ونحن نعرف أن السبب الذي جعل الإرهاب "أقل خطرا" في غرب القارة منه في منطقة الساحل هو أن منطقة الساحل قد تلاقت فيها - نظرا للفراغ الأمني ووجود دول فاشلة فيها - مصالح الإرهاب مع مصالح اقتصاد الجريمة (الجماعات الإرهابية وتجارة المخدرات) وتكون بينهما تحالف استراتيجي قوي لا يزال هو التهديد الأول الذي يواجه المنطقة ويغذي مختلف الصراعات الموجودة فيها .
وكان من شأن التوتر في هذه المنطقة والحرب التي كان يتم الإعداد لها دون حكمة أو تبصر خلق الفراغات الأمنية التي يحتاج إليها ذلك التحالف لكي ينشأ ويتعزز وبالتالي يتمكن التحالف المكون من الجماعات المسلحة وعصابات اقتصاد الجريمة من الحصول على منفذ على المحيط الأطلسي في منطقة غنية بالثروات عندئذ لن يتحقق التواصل بينها وبين الجماعات الموجودة في منطقة الساحل (حوض النيجر والصحراء الكبرى) فحسب بل ستصبح على اتصال مباشر من خلال الواجهة البحرية بأوروبا وأمريكا الجنوبية وستحصل على موانئ آمنة ولن تكون بحاجة إلى تسهيلات من الزعماء الأفارقة الضالعين في تجارة المخدرات وتجارة الأسلحة وغيرهم لتمرير تجارتها أو القيام بعملياتها الإجرامية.
3- استحالة الحسم العسكري للصراع المسلح نظرا للتركيبة السكانية المعقدة لهذا البلد والذي يتشكل من مجموعات عرقية أبرزها الماندينك (الديولا) مجموعة الرئيس جامي المدربة والمدججة بالسلاح المستعدة منذ فترة لأسوأ الاحتمالات بما في ذلك الحرب الأهلية يساعدها في ذلك معرفتها التامة للمكان وقدرتها على الصمود لفترة طويلة نظرا لاكتفائها الذاتي في المجال الغذائي بفضل خيرات الطبيعة.ولعل الحقيقة التي يجهلها كثيرون عن غامبيا هي أن هذا البلد ليس له جيش نظامي بالمعنى الدقيق للكلمة نظرا إلى أن الطابع العشائري هو الذي يطغى على اختيار أفراد الجيش منذ تولى يحي جامي لمقاليد الحكم فالمانديك هم الذين يشكلون العمود الفقري "للجيش" الغامبي في خطوة اعتبرها كثيرون استعدادا لهذه اللحظة وطالما شكل هذا الأمر خطرا على السنغال وعلى غامبيا نفسها.ينضاف إلى ذلك التداخل العرقي لهذه المجموعة التي تشكل عماد "الجيش الغامبي" مع سكان الجنوب السنغالي وخصوصا إقليم كازامانص الانفصالي وتشير كل الدلائل إلى أن سكان ذلك الإقليم متعاطفون مع أبناء عمومتهم رغم أنهم لم يصرحوا بذلك علنا ولم يحددوا موقفهم مما يجري حتى الآن.
4- التكوين العسكري الإنجليزي والعقيدة القتالية لضابط متمرس تتوفر فيه أهم مواصفات الزعيم المثالي للحرب الأهلية فقد عرف خلال فترة ليست بالقصيرة نظرا للهزات التي تعرضت لها أركان حكمه كيف يكوّن حوله مجموعة من المليشيات تتكون أساسا من مجموعته القبلية القوية المعروفة بقوة الشكيمة وهي المجموعة المدربة والمسلحة على خلاف المجموعات الأخرى وبالتالي تمتلك القدرة على القيام بحرب العصابات على الطريقة الفيتنامية :
ضرب التجمعات العسكرية الكبيرة والتلاشي بسرعة البرق في ظلام الغابات الاستوائية الكثيفة .وعليه لم تكن أطراف الصراع تدرك خطورة الوضع ولم يكن في مقدورها أن تتنبأ بما كان في إمكانه أن يحدث مع قائد محاصر قد يدفعه اليأس وتضييق الخناق إلى التحالف مع قوى الشر (الجماعات الإرهابية وتجار المخدرات) ولا شك أن الطرفين يعرفان الطريقة التي يستغلان فيها ذلك التحالف للحصول على منافع خاصة.
لكن الموريتانيين يتطلعون بعد هذه النجاحات التي حققتها الدبلوماسية الموريتانية ممتثلة في شخص الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى طي خلافاتهم الداخلية وتوحيد جبهتهم الداخلية استعدادا لما قادم (الطفرة النفطية واستغلال حقول الغاز المشتركة مع الشقيقة السنغال وما قد يترتب عليها من تطورات) وكأن لسان حالهم يقول :
سيدي الرئيس ما في المدينة أحوج منا يا ر سول الله.الانفتاح على الخارج يمنح المصداقية والانفتاح على الداخل يمنح القوة والشرعية.وفي تقديرنا أن الرئيس لو اتجه بنفس الإرادة والحس الأمني والرؤية الاستراتيجية نحو المشاكل الداخلية : المشكلة المتعلقة بالإرث الإنساني للعبودية في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، والمشكلة المتعلقة بالمسألة الثقافية والسياسات اللغوية، والمشكلة المتعلقة بالأزمة السياسية بين الأغلبية والمعارضة فحلها لاستحق مكانة خاصة في قلوب الموريتانيين بعيدا عن التملق والنفاق.
إن الخدمة العظيمة التي قدمها رئيس الجمهورية للأمن القومي الموريتاني ولأمن السنغال وفرنسا وللأمن الإقليمي والعالمي بصفة عامة نتيجة للخبرة التي اكتسبها في حل النزاعات (النزاع مع الإرهاب والتطرف العنيف ، النزاع في الشمال المالي وأخيرا النزاع في منطقة حوض السنغال..) تؤهله مستقبلا للعب أدوار مهمة على الصعيد الإفريقي والعالمي ويجب على إفريقيا والعالم أن تكافئه على ذلك مستقبلا.