السنغالُ ...دولةٌ (2/2)د/ ناجي محمد الإمام

ثلاثاء, 2014-08-05 17:44

أوائل الثمانينيات كنت كما تلخصه الصورة المرفقة في ريعان الشباب الذي تجاوز الميعة ، إن كان عرفها، قومي عروبي إفريقي نكرومي في ثوب إنساني يساري حاد التقاسيم (ولن أبرحها) وكنا ـ ذاك الزمن ـ نكاد نلمس المستقبل الوضاء للبشرية في الحرية و المساواة والوحدة ، وكنت عائدا من سفرة قادتني إلى لبنان أيام الحرب الأهلية ( تنذكر و ما بتنعاد كما يقول إخوتنا البيارته) معرجا بكعبة اليسار آنئذٍ طرابلس ، و كما هي عادتهم ـ سقى الله أيامهم ـ أنزلوني فندق الشاطئ على ضفة زرقة المتوسط الابدية( وهو أرقى و أعرق فنادق طرابلس فرج الله كربتها) حيث أحط عصا التسيار و أشعر بروح التاريخ تغمرني بأطياف الفاتحين والقادة و المغامرين الذين مروا من فجر الزمن إلى غروبه على سواحل هذا الماء الخالد...حنابعل أو هانيبال ... عليسة...الملاح حنون... الغافقي ... عقبة...يوسف ... الحشاشين ... الدايات ...البايات ...الباشوات...القره منلي ...رومل...غرازياني ...شيخ المجاهدين ...إلخ

 

مسائي الأول في سهرة مقهى الفندق الذي لا بديل له في مدينة ثورية متصوفة لا مقاهي أو مطاعم أو دور مسرح فيها ،حملت إلي أذني حديثا ولفيا سينغاليا أليفا فتقدمت مستطلعا فإذا بدزينة من الشباب السنغالي تتحلق حول فناجين القهوة والشاي السيلاني الأحمر الوفير ، فسلمت بولفية دكارية "توبابية" فيها نكهة "وليام بونتي" فتقافز القوم مهللين و مرحبين بهذا " النار" الهابط من اللا أين!

 

حدثوني أنهم من أنصار المعارض السنغالي المعتق ـ آنذاك ـ الاستاذ عبد الله واد ،وأنه مقيم بليبيا في ضيافة القائد العربي الليبي الكبير معمر أبومنيار القذافي تغمده الله بواسع رحمته ،فاستغربت أن يكون مضطرا إلى اللجوء في الخارج ،والسنغال معروف بالتسامح السياسي والتعددية الليبيرالية أكثر من بعض البلدان الغربية ، ولما التقيته أسهب في شرح حساسية "عبدو ضيوف" الرئيس الحاكم إذ ذاك ،منه .وأنه قد يعتقله لو عاد إلى بلاده، و قلت : ما الفرق بيننا و بينكم نحن مطاردون من طرف الانقلابيين العساكر و أنتم مطاردون من مدني منتخب باسم الديموقراطية...

 

وفي نقاش متصل مع أحد مساعديه قال لي عبارة ما زالت ترن في أذني بعد عقود ، (وإن لم تبدل من قناعتي بأن ديمقراطية الغرب لعبة مال) مجملها: "إن الديمقراطية التي سلطت عبدو علينا ستسلطنا عليه"..

 

بعد ذلك بعقدين كان المعارض المبعد الطريد يستقبلني في معرض دكار الدولي للكتاب و أهديه ديواني "التيه والبحر والذاكرة"الذي يتضمن قصيدتي " Tout Passe" كل شيء يمضي بالفرنسية...

 

كان يومها عبد الله واد فخامةَ الرئيس وسيدَ" قصر روم" الرابض على الأطلسي منذ قرن ونصف و ما زال يروي قصص المارين من دهاليزه و أصداء شخيرهم في غرفه المسكونة: ....Hélas tout passe

 

السنغالُ.. الشقيقُ رغم اختلافاتنا الجوهرية ...دولةٌ.