رمت بي مهنة المتاعب إلى دروب موحشة في بلد إفريقي صغير يعبر بشق الأنفس نفقا غير واضح المعالم بين الديمقراطية والديكتاتورية.
من أول يوم في العاصمة الغامبية بانجول لاحظت وزميلي المصور البريطاني من أصل مغربي أن الوجود الموريتاني في هذا البد الصغير طاغ على ماسواه من الجاليات الأجنبية،تجار موريتانيون من كل الأعمار والألوان موجودون هنا، تتنوع أعمالهم من بائع في دكان صغير إلى مدير لأكبر شركات الاستيراد والتصدير إلى مالكين لأغلى العقارات في بانجول.
قاسمهم المشترك جميعا هو تلك الطيبة الطافحة وذلك الكرم الحاتمي الذي يقابلون به ضيوفهم، ذابت بينهم الفروق والطبقات ولم تفرقهم الانتماءات السياسية فهذا عضو في مجلس الشيوغ عن الحزب الحاكم وذلك ممثل لحزب تواصل وآخر ناصري ورابع غير منتمي سياسيا لكنهم جميعا طيبون أوفياء لذكرى الوطن متحابون في الوطن متكاثفون خارجه.
منذ اليوم الثاني لي في بانجول أفقنا على مصاب جلل وهو وفات الزميل شيخنا ولد محمد الأمين مراسل الجزيرة نت كان هذا الحدث الأليم مناسبة لأكتشف فيها معدن هؤولاء الرجال الذين لم تلهم التجارة والإضطرابات السياسية في غامبيا عن التكفل بجثمان مواطن موريتاني مغترب لم ينتظرو أن تتكفل به الشبكة العالمية التي ينتمي إليها وتوفي رحمه الله وهو يعمل لها، سارعو جميعا إلى المستشفى الذي نقل إليه المرحوم وصلو ليلهم بنهارهم مرابطين أمام المستشفى حتى تمت الصلاة على الفقيد ثم نقلوه إلى الوطن ليوارى الثرى بين عشيرته الأقربين كان منظر الحزن على سحنات أولائك الرجال خير دليل على أنهم فقدوا شخصا عزيزا ينتمي إلى وطن يحملونه بين جوانحهم.
تمنيت لو قدر لكل أولائك المتخاصمين داخل الوطن على أسباب تافهة في الغالب أن يروا هذا الانسجام والمودة بين أفراد الجالية في غامبيا، يتنافسون في قرى الضيف كل بحسب عادات وتقاليد منطقته في موريتانيا من شرقها إلى غربها ببياضها وسوادها ، لا عنصرية هنا ولاجهوية ولا قوي يستأسد على الضعيف فقيرهم وغنيهم يلتقيان في جلسات الشاي ليتسامرو ويذكرون أخبار الوطن.
يحظى موريتانيو غامبيا بالكثير من التقدير والاحترام لدى السكان المحليين الذين يثنون على خصالهم وعلمهم الغزير وبساطتهم ، أما السلطة الحاكمة فتعتبرهم ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد وهو ما أكده لنا الرئيس المنتخب آداما بارو الذي عبر عن احترامه وتقديره للجالية الموريتانية، مظاهر الاحترام هذه لمسناها لدى الجيش الغامبي وقوى الأمن التي كنا نمر عليها في نقاط التفتيش في كثير من الأحيان لم تسعفنا البطاقة الصحفية بقدر ما أسعفتنا الهوية الوطنية كان الجنود الغامبيون يصبحون أكثر ودية عندما يعرفون أنني موريتاني ،لأحس بنشوة وفخر الانتماء إلى ذلك الوطن العزيز.
غادرت غامبيا وأنا سعيد لأنني عرفت أفراد جاليتنا هنالك وأدركت كم أن الوطن كان سيُصبِح أجمل لو كان كل الموريتانين يشبهون موريتاني غامبيا، حيث الوطن في نقائه وصفائه وعنفوانه وعدالته وبساطته العذبة والجميلة.