إنها بالكاد تَخْفى علاماتُ الضعف إن لم يكن مواتُ الحراك الثقافي في هذه البلاد التي تَدَّعِي بعضُ نخبها ـ المكابرةُ و الناكرةُ لهذا الواقع الذي يفقأ العيونَ، يدمي القلوبَ و يحيرُ الألبابَ ـ بأنها أرضُ النوابغ و الإبداع؛ بعض نُخب لا تفتأ كذلك تكرر هذه الشهادات المفرطة في الرضا الذاتي و كأنها "إكسير"
حياة لجسم هي من حنطته بمادة الرياء القديمة التركيبة في دائرة تقديس المومياء.و لا شك أن الثقافة اليوم قد تراجعت إلى الوراء بأشواط كثيرة بعدما كانت شَهدت بُعيد الاستقلال قفزة إلى مدارك ثقافات العصر بما ساد آنذاك من نشاط و نتاج عدد من المفكرين و بروز كتاب و شعراء مبرَّزين و حراك سياسي دعمه الوعي الثاقب و الاقتباس من الإيديولوجيات، و ظهور موجة ترجمة منفتحة على العالم وروائع نتاجاته باهتمام كبير بها و إقبال شديد. ولا ريب أيضا في أن عوامل الفقر التي سببها جفاف دام عقودا ثلاثة من عمر ما بعد الاستقلال و حرب الصحراء المشؤومة و الانقلابات العسكرية التي أعقبتها عوامل لعبت كلها أدوارا كبيرة في هذا التراجع الموجع للثقافة و كانت تتجه إلى صياغة أحرفها الذهبية الأولى. و اتسم هذا التراجع الشديد و ما تكشف عنه لاحقا من ثقافة مترهلة سائدة بخصائص عدة منها على سبيل المثال لا الحصر:·
النظر الارتدادي البارز للنخبة إلى وراء وكأن الماضي كان مثاليا في كل شيء ـ و ليس الأمر كذلك ـ و إن كان الميراث الذي سبق الدولة المركزية قد صنع للبلد خلفية تاريخية ارتبطت بالمعرفة في ذلك العصر و متكأ حضاريا عربيا إسلاميا لا غبار عليهما، حتى أن المستعمر الفرنسي شهد بذلك معترفا و منبهرا؛ ميراث عضدده أفذاذٌ رحلوا إلى المشرق وقت كربته الثقافية الشاملة و محنة وُقُوعِه في براثينِ الاستعمار الغربي مِنْ بَعد أن مزقته و جهلته و كادت تمسخه فكريا و حضاريا هيمنة اللغة و الثقافة العثمانية فأسهموا في العمل الجبار لاسترداد ألق الثقافة العربية من منطلق إحياء لغتها العظيمة،·
عقدة تأثيم الغرب و شيطنة اللغات الأجنبية و على رأسها الفرنسية بدل اعتبارها رافدا و وسيلة لتجاوز عقدة الدونية غير المعلنة و الصرف بدلا عنها و إلى غير رجعة عقدة الاستعلاء و الاستكفاء بالموروث كأن كل شيء فيه مثالي، كما أسلفنا، و أنه ببعض "اللمسات الكرنفالية" سيساير العصر و ما وصل إليه العقل خلاله من رقي التفكير و غزارة الإنتاج و من العِلمية البناءة التي غيرت وجه التعاطي مع الحياة الماضية المتسمة بالجمود و ضيق الأفق،·
عدم احترام، بل و مُحاربة حرية الرأي الفكري الذي يقدم بجرأة مقترحات حلول للإشكالات المزمنة حول القضايا الفكرية العالقة ـ و ما أكثرها و أشد كبحها جماح الفكر الثائر المتنور- يبني الهرم المعرفي عموديا إلى تحرير العقل من أغلال و ظلامية الخرافة، و يطلق العنان أفقيا للإبداع و صناعة التوازن الثقافي و العلمي قواعد ثابتة و راسخة ينبني على أساسها كيانُ الدولة المكتمل الأركان و المعد للصمود بقوة أمام ارتجاجات الارتكاس التي تحدث من حين لآخر بسبب التيارات المغرضة بدون سابق إنذار بفعل العجز عن التجديد،·
و الانفعال الغاضب لدى نخب الجمود و التعصب المميت في وجه كل تيار تنويري تقدمه روافد العولمة في شقها الإيجابي و ما أرحب فضاءها و أغزر عطاءها،·
تعاطي النخب السياسية ـ التي هي جزء من مفرد النخبة الشامل، المنوط بها قسط معتبر من العطاء الثقافي البناء و الفكري التنويري العام ـ المقلوب لمفهوم الديمقراطية و هوسها بالحكم ورفض المراجعة والنقد الذاتي و الإصرار على العمل بالشعار المعروف (إما كل شيء أو لاشيء) و في غياب المرونة التي هي من أرقى السلوكيات التي تفرزها الثقافة بشكل عام و السياسية منها بشكل خاص لما يترتب عليها من لعب الدور الكبير في تهيئة الظروف الآمنة للعطاء الثقافي و الإشعاع الفكري في سياق النهضة الحضارية العامة للبلد و الثقافية على وجه الخصوص و وجوب ترافقها مع نهضة عامة في مجالات أخرى، علما بما هو محل اتفاق الجميع أنه لا يمكن لأية نهضة أن تُحدث التغيير الذي يرجوه المثقفون و العامة إلا أن تكون شاملة بهذا المعنى.أما و الوضع الثقافي بهذا المستوى المتدني فإن التخلف العام لم يتأخر عن تطويق عنق البلد بردائه القاتم و بخنقه بيدي الجمود و التقهقر. و إن لم تنبري قبل فوات الأوان و بسرعة فائقة من حول الركام المعرفي الهش المترامي في كل الأرجاء و أطلال الخرافة في الأذهان، و تستفق من إغماءة الأسطورية إراداتٌ مسلحة بالشجاعة و أقل قدر من الإرادة الصلبة لانتزاع الطوق من الرقبة و إجراء التنفس الاصطناعي، فإن هذه الوضعية السيئة التي لم تعد تعيشها حتى أكثر بلدان العالم تخلفا و أقلهم أدعائية بألمعية الحضارة و إشعاعها، سَتود حتما بالرمق الأخير و التي تُحاول أن تُنعشَهُ جاهدة في خطوة تمزج بين التـأثير الثقافي من منطلق خليات حضارية مكينة و الديبلوماسي بقدرات مؤهلة رصينة من حين لأخر بعضُ المراكز العربية و الأجنبية بإحياء تظاهرات و إنعاش محاضرات في ظل عجز عديدِ المراكز البحثية الربحية النفعية في أغلبها و الانتقائية السلبية الغرضية في المواضيع التي تطرقها و تستدعي لها فرسان خاصتها بعيدا عن العمل على رفع المستوى الفكري البناء و إطلاق العنان لحيز أهل الثقافة و تكريس الإبداع خدمة لنهضة البلد و تأهيل نخبه لإعادة كتابة تاريخه بموضوعية و تثمين موروثه عندئذ و استغلاله بالوسائل العلمية الناجعة.