أثار افتتاح الدورة البرلمانية الحالية اهتمام السياسيين ،ومن يدور في فلكهم من عالمهم المصغر، فقد انهمك الكل -بموازاة مع البرلمان - في مناقشة التعديلات الدستورية المرتقبة .ولأن التحدي كبير ويمس الوثيقة التأسيسية الأهم (الدستور ) فإن ذلك يستحق منا الاهتمام به والتوقف عنده .إلا أننا مع ذلك يجب أن نتجنب الانزلاق ونحرص على أن يبقى نقاشنا في حدود التقاليد الديمقراطية الموصوفة ، لذلك يجب علينا قبل كل شيء احترام المؤسسات الديمقراطية والقبول بحكم صناديق الاقتراع .
إن التذكير بهذه المسلمات الأساسية ، قد يبدو للوهلة الأولى غير وارد ، لكن للأسف ، نرى أن التسليم بهذه البديهيات ، ليس بكل هذا الوضوح عند البعض منا ، فقد خرج علينا محرض ، لا ندري أية رحم سياسية قذفت به ليتصدر المشهد ، ويجر الحديث نحو مسار جديد غير الذي كان مألوفا أثناء المواجهة السياسية التقليدية .فالنبرة العدوانية والحربية في خطابه المقلق ، حاول طلائها بمرجعيات تاريخية ، وتناقضات ، أقل ما توصف به ، أنها غريبة ومحيرة، كإسقاطه واستحضاره لرباط الفتح –بكل ما يحمل من مدلول سلمي - أثناء دعوته لاحتلال الجمعية الوطنية و الإستلاء على مقرها بالقوة .
إن هذا الخطاب الملييء بالخلْط والمغالطة ، جعلني لا أجد غضاضة في تذكيركم بضرورة احترام قواعد اللعبة الديمقراطية والانصياع لحكم القانون .
ولعل التساؤل المطروح ، هل يشكل هذا الخطاب مقدمة لإعصار سياسي مدمر ، أم أنه مجرد تلويحات هزلية من (دونت – كيشوت يريد بها تصدر المشهد والهجوم على طواحين الهواء ؟
في كل الأحوال ليس في الوضعية السياسية الراهنة للدولة ،من الحجج والذرائع ، ما يمكن أن يبرر هذا الخطاب المستفز . بل بكلمة واحدة : إنها أحسن بعشرة أضعاف من الوضعيات السابقة ، لذلك نجد من المثير للدهشة و الاستغراب أن يصدر كل هذا الانزعاج من مستشار للرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع .
إن السياسات الحالية يجب بالأحرى أن تثير الابتهاج في نفوسنا ، خاصة أننا لأول مرة أمام إمكانية تداول ديمقراطي حقيقي على السلطة ، حينما تم استبعاد خيار المأمورية الثالثة بشكل نهائي ، لذلك من الحري بنا أن ينصب تفكيرنا على هذا الاستحقاق العظيم ، بدلا من الاستمرار في اليأس من القيام بأي شيء ، والتمادي في خوض معارك متجاوزة وعقيمة لا هدف ولا طائل من ورائها .
ثم إن كل سياسي متبصر عليه أن يساهم في إنجاح هذا الاختبار الديمقراطي الكبير الأول من نوعه ، خاصة وأن مستقبل دولتنا وبقاء مؤسساتنا مرتبطان بنجاحه .
أما ما يزيد ثقتنا في هذه التعديلات الدستورية ، فهي أنها لم تصدر نتيجة اقتراح من أي شخصية في السلطة ، وإنما تمخضت عن قرار اتخذ بالإجماع ، إثر حوار حر وصريح وبدون قيود ، تداعت له الأغلبية الساحقة من المكونات السياسية وممثلي المجتمع المدني .أما اليوم فنحن بصدد عرض النتائج التي توصل إليها هذا المنتدى على ممثلي الشعب المؤهلين وحدهم قانونيا لاعتماد هذه النتائج بعد مصادقتهم عليها .
فما الذي ينطوي عليه هذا النهج من الخبث حتى يثار كل هذا الجدل حوله ؟ وهل سيكون من الحكمة الالتفاف على المتحدثين باسم الشعب والاعتماد على إرادة الشارع بدلا عنهم ؟
أم هل من الحكمة أن نقضي على أنفسنا بالجمود؟ إن النصوص والقوانين متطورة وديناميكية بطبيعتها ، لذلك نجد الدستور نفسه ينص على الإجراءات والمسطرة التي تتبع من أجل تعديله ، مما يعني أن كل مسعى يتقيد بتلك الإجراءات والمساطر ، هو مسعى لايمكن الطعن فيه أو التحفظ عليه .
أما رموز الدولة هي الأخرى فقد تم اقتراحها واعتمادها من قبل رجال عظام نصبوا أنفسهم ممثلين للشعب ، أي أنه يمكننا بالطريقة نفسها مراجعة تلك الرموز وإعادة النظر فيها ثانية ، خاصة أن من سيتولى المهمة هذه المرة ، هم ممثلوا الشعب المنبثقون عنه والذين منحهم ثقته .
فكل مايهم بهذا الخصوص ، هو التقيد الصارم والدقيق بالمساطر والقوانين المرعية في هذا المجال .أما وجهات النظر المختلفة التي تعالج هذا الموضوع الصعب، فإنها يمكن أن تلتقي في النهاية من خلال نقاش جاد هادئ و مسؤول .وبخصوص أنصار الخطاب الشعبوي و الديماغوجي ، فهم آفات حقيقيون ، يجب على الجميع طردهم ، والوقوف في وجههم ، حتى ينقطع دابرهم.
ترجمة الدكتور : محمد محفوظ العبادي الاطار في وزارة الخارجية