سنة 1981، كنت والدكتور العثماني طالبين بكلية الطب بالدار البيضاء، منتميين لحركة الشبيبة الإسلامية، غير أنه لم نكن نعلم في غيب الله المكنون، أن أحدنا ستتخطفه طريق الاعتقالات والسجون، الآماد الطويلة، وأن الآخر سيمضي في الطريق المفروش بالورود، قدما نحو أعلى منصب سياسي: رئيس الحكومة. فلله في خلقه شؤون.
عندما يصبح المرء شخصية عمومية، تصبح حياته من الميلاد إلى الممات صفحة مفتوحة للرأي العام، لا مكان فيها للمساحات المعتمة، والآن وقد أصبح الدكتور العثماني رئيسا لحكومة المغرب، فإن السؤال العام ينصب بإلحاح حول خفايا تلك المساحة المعتمة من صفحة حياته، والتي كانت هي العنصر الحاسم في رسم مستقبله، التي بدونها، وبدونها وحدها، ما كان للدكتور العثماني، أن يبلغ شأو ما بلغ إليه، ولكان مصيره أن يصبح نسيا منسيا، في عداد من تلفهم أمواج النسيان في بحر المحيط العريض الذي يبتلع الجحافل العرمرمة من السابحين في لجج الحياة، بأقدارها ومصائرها التي تقضي بها مشيئة الله أحكم الحاكمين.
كان العنصر الحاسم في منعطف حياته الناجح، هو القدر الذي ساقه وهو طالب نازح بالدار البيضاء إلى الشبيبة الإسلامية: كبرى الجمعيات الإسلامية، التي كانت بنشاطها سنوات السبعينيات، دينامو الحركة الإسلامية بالمغرب.
سنة 1976، قدم العثماني إلى مدينة الدار البيضاء، طالبا بكلية الطب، ومشبعا بالثقافة الروحية والخلقية التي تشربها في مدينة أكادير من رجال الدعوة والتبليغ، والذين هم أشبه في جمعيتهم بطريقة صوفية تدعو إلى ذكر الله والكلمة الطيبة والتبليغ ونبذ الحديث في السياسة، وأمام انبهار الفتى بسعة الدار البيضاء واتساعها لكل التنوع القبلي المغربي، وانغمار اللهجة الأمازيغية في الخطاب العام العروبي، وأمام نفوره من مساوئ الدار البيضاء، وجرأة الشباب فيها، والطلاب خصوصا، على تعدي حواجز الدين والأخلاق والمحافظة، انجرافا مع التغرب، كان المهرب الوحيد للعثماني هو مسجد النور حيث رجال التبليغ، هنالك تستأنس غربته بدفء الأحاديث الدينية العذبة.
ولم يكن النفور الفطري للفتى العثماني يسمح له بالاهتداء أو الاقتراب من الشبيبة الإسلامية، التي أصبحت تنظيما عتيدا شبه عسكري من حيث انضباطه وانغلاقه، سنتي 1976 و1977، بعد تولي صفوة شبابه القيادة والتأطير، على إثر خروج عبد الكريم مطيع، رئيس الجمعية من المغرب، فور حادثة مقتل عمر بنجلون الزعيم الاتحادي الاشتراكي.
ولأن تنظيم الشبيبة الإسلامية آنذاك، كان مغرقا في السرية، ودقيقا في معايير استقطاب الأعضاء، وثوريا في اختياراته الفكرية، ينهل من مختلف النظريات الثورية، إسلامية وغيرها، فلم يكن ليسمح باستقطاب العناصر المسجدية المرتبطة بالطرق الصوفية أو التابعة لرجال التبليغ، للدروشة التي تطغى على مسلكيتهم، مما أبقى الفتى العثماني بعيدا عن مرمى التنظيم، فقد ظل النفور والاحتياط متبادلا.
غير أن هذا الوضع من المكوث على الهامش، لم يستمر طويلا، ففي سنة 1978، سيتناول العثماني أول جرعاته من فكر الحركة الإسلامية، من الأقداح التي كان يسقيها له الشيخ محمد زحل، أحد رجال التعليم، الذي كان في طليعة أول من وضعوا اللبنات الأولى للحركة الإسلامية المغربية، وكان من قادة ومؤسسي جمعية الشبيبة الإسلامية، وقد كانت العلاقة التي تربط الشيخ زحل وأعمام العثماني، من خلال سابق تعليمهم بالمعهد الأصيل بتارودانت، هي من قربت الفتى من الشيخ ورمت به بين أحضانه.
غير أن ارتباط العثماني بالدائرة التابعة للشيخ زحل، أبقته مرة أخرى في محيط التنظيم، ولم تلق به في أعماقه وتولجه في صفوفه، فقد كانت الشبيبة الإسلامية، بعد 1975، تسير وفق خطين منفصلين، خط رجال التعليم الذين شاركوا مطيع في تأسيس جمعية الشبيبة الإسلامية، وخط التنظيم السري الذي انبثق عن الجمعية، واستأثر الشباب الطلاب بقيادته وفق نظام حديدي، لا نفوذ للشيخ زحل ورفاقه عليه.
وهو النظام الحديدي الذي أثار حفيظة السلطات العليا في البلاد فعجل مطيع بضربه وتفكيكه مرتين، سنة 1977، وسنة 1979، حتى لا يكون خطرا مثيرا لهواجس الحكم، ومن ثم معيقا أمام عودته.
ومع هذا الضرب والتفكيك، عادت رمزية الشيخ زحل ورفاقه من قيادات رجال التعليم وعلى رأسهم المرحوم علال العمراني، والذي كان بحق وحقيق، العقل الكبير، والصدر الحاضن والحافظ، والدينامو المحرك للشبيبة الإسلامية في كل أطوارها.
بعد 1979، سيصبح المرحوم العمراني هو الرجل المركزي في التنظيم، وسيعمل على إدماج الخطين المتباعدين، خط الجمعية وخط التنظيم الشبابي، ومن واقع هذا العمل الإدماجي، كان المصير الجديد للعثماني، بين يدي العمراني، الذي سيعيد صياغة شخصيته، وإخراجه من جلباب الشيخ زحل، وإنهاء نفوره من خلطة التنظيم الشبابي، ومعالجة عزلته، وضمه إلى العمل الطلابي الجامعي.
وبإيعاز من المرحوم العمراني، وبترتيب منه، انضم العثماني إلى التنظيم الطلابي الجامعي، بكليات ومعاهد الدار البيضاء، وهو التنظيم الذي كان يشرف عليه الطالب في كلية الحقوق، المحامي الآن الأستاذ محمد الإمام الحافظي، ذو الأصول الصحراوية، والذي كان نموذجا قياديا فريدا في الشبيبة الإسلامية، إذ كان كتلة ملتهبة من النشاط، وطاقة هائلة من الفكر، ومثالا رائعا في الصدق والأخلاق والتواصل، واستطاع بذلك أن يحول غرفته في الحي الجامعي إلى مزار مفتوح ليل نهار وإلى خلية نحل، بل استطاع أن يحول كثيرا من غرف الحي الجامعي وداخليات المعاهد، إلى مآوي العمل التنظيمي السري، بحيث أصبح الثقل التنظيمي للشبيبة الإسلامية في الجامعة، أوزن من تنظيمات التيارات الأخرى الماركسية والاشتراكية، وفي هذه الأجواء، وتحت إمرة هذا الشاب الصحراوي، تعلم العثماني الشيء الكثير، واكتسب الشخصية الحركية الإسلامية التي كان مغبونا فيها فيما سبق.
غير أن هذه الخلطة مع التنظيم الجامعي لم تمض بدون ثمن، ففي سنة 1981، وعندما شن الأمن حملة اعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين، وسقط بعض أفراد خلية طلابية كانت مسؤولة عن توزيع المنشورات السرية، جرفوا معهم صاحبنا العثماني ليقضي أربعة أشهر من الاعتقال دون محاكمة.
غير أن هذه المراحل لم تكن سوى تمهيدية، ستفضي بالعثماني إلى منعطف العمر في حياته، والذي كان في اللحظة التاريخية التي التقى فيها عبد الإله بنكيران صيف 1981.
ففي ربيع 1981، وعندما أعلن تنظيم الشبيبة الإسلامية، إبعاد عبد الكريم مطيع عن القيادة، ولم يبق معه سوى النزر اليسير، وعند تشكل الجماعة الإسلامية، افترق هذا التنظيم إلى جناحين، جناح الدار البيضاء، والذي كان الجناح الوازن والتاريخي والممتد تنظيميا، وجناح الرباط/فاس الذي كان في درجة ثانية ثقلا وتاريخا، وكان الخلاف بينهما مشبوبا حول الإبقاء على البنية السرية للتنظيم كما يتشبث به جناح الدار البيضاء، بينما يسعى للتحلل منه جناح الرباط.
وفي لجة هذا الصراع حول التوجه، وحول المواقع، ولأن الشيخ زحل كان يشايع المنحى الداعي إلى التخلص من سرية العمل، فقد ساهم ذلك في أن يكثف عبد الإله بنكيران من التواصل معه، لتقوية هذا الاصطفاف، وفي صلب هذا التواصل، تسنى لعبد الإله بنكيران أن يختطف العثماني، من أحضان جناح البيضاء، والذي كان تلميذا روحيا لزحل، في أول اختراق تنظيمي يقدم عليه جناح الرباط.
ومنذ ذلك الحين أصبح العثماني مواليا لجناح الرباط، بالرغم من نشأته التنظيمية بالدار البيضاء وإقامته بها، واستفاد من هذا الصراع بين الجناحين، أن فرضه بنكيران ممثلا تنظيميا عن مدينة أكادير، لترفيعه إلى مستوى قيادي وطني، في إطار معركة الاستحواذ على المواقع بين الجناحين.
وبفضل عبد الإله بنكيران تمكن العثماني من الارتقاء السريع من صفوف القاعدة إلى موقع التمثيل الوطني، بالرغم من أنه في ذلك الحين لم يكن على درجة من النضج التنظيمي، وسلك التدرج التراتبي لتسنم صدارة التنظيم.
ومنذ ذلك الحين أيضا ارتبط العثماني بمدرسة عبد الإله بنكيران التي فتحت له آفاقا رحبة من النضج والتكوين والحضور والتألق بالشكل الذي كانت فيه شخصية بنكيران أكثر تأثيرا في مسار حياة العثماني على المستوى الميداني بما لم يتأت له مع سابق آباءه الروحيين.
في مساره الطويل في العلاقة مع بنكيران، اختار العثماني أن يكون توفيقيا وتلطيفيا للحالة التي يكون فيها بنكيران صداميا ومجابها وهائجا، شأنه في ذلك شأن المرحوم عبد الله بها، وقد استفاد من هذه التوفيقية أن احتل الموقع الوسط بين بنكيران والدكتور الخطيب في صراعهما الذي كان لا يتوقف، وهو الموقع الوسط الذي بوأه مكانة نائب الدكتور الخطيب ثم مكانة المدير العام للحزب، وفيما كان الصراع مع الدكتور الخطيب يبعد بنكيران عن موقع الرجل الأول في الحزب، مع أنه هو الرجل الأول حالا وواقعا، كان هذا الصراع يقرب الدكتور العثماني من الموقع الأول، إلى أن أصبح أمينا عاما للحزب.
ويدور الزمن دورته، ويصبح الصراع الذي يخوضه بنكيران مرة أخرى في المعترك السياسي، بحثا عن تشكيل حكومته، وبالا عليه، بينما يفيض بالبركات على رفيق دربه العثماني الذي غدا رئيسا لحكومة المغرب.
وإذا كانت الحركة الإسلامية صاحبة الفضل على الدكتور العثماني، فإن هذا الأخير مدين بأهم المكتسبات في مسار حياته لمرشده وقائده الميداني عبد الإله بنكيران.
رأي اليوم