تحل الذكرى السادسة لرحيل محمود درويش في ذروة المأساة التي تعيشها غزة. هذه ليست مصادفة. من يعاود قراءة النص الرهيب الذي كتبه شاعرنا عن غزة عقب حرب «الشتاء الساخن» التي شنتها إسرائيل عليها وعنوانه «صمت من أجل غزة»، يدرك المعنى التراجيدي الذي طالما تمثلته هذه الأرض الفلسطينية في وجدان الشاعر. كتب عن غزة كما لو أنها مدينة محكومة بقدرها المأسوي، مدينة «لا تكف عن الانفجار» الذي ليس «موتاً هو ولا انتحاراً» بل استحقاق لـ «جدارة الحياة».
لا يمكن الفصل بين الذكرى السادسة لرحيل محمود درويش والحصار الذي يضربه الجيش البربري حول غزة، والحرب الوحشية التي يشنها على الأبرياء الذين هم دوماً مَن يدفعون الثمن. روح الشاعر هنا، أتخيلها ترف فوق قبور الأطفال المقتولين الذين سماهم «أطفالاً بلا طفولة». كتب الشاعر أيضاً عن «لحم» غزة الذي «يتطاير شظايا قذائف»، الذي «لا هو سحر ولا هو أعجوبة»، بل «سلاح غزة في الدفاع عن بقائها».
عبرت غزة شعر محمود درويش بزرقة بحرها وروائح برتقالها ودفء الشمس على شواطئها. وفي نثره كانت بمثابة العقدة التي لا تُفك بسهولة، ما دامت غزة تتخبط في تراب قدرها وفي الدم الذي تسكبه و «الحرائق التي تتكلمها» كما يعبر الشاعر. ليست غزة بقعة تناقضات، ولا هي «تتقن الخطابة» و «لا حنجرة لها»، غزة «كابوس» العدو، «يكرهها حتى القتل ويخافها حتى الجريمة». هذه غزة الفلسطينية، لا غزة «حماس» ولا غزة «السلطة» ولا غزة الحرب الأهلية التي استقلت عن الضفة الغربية ليصير «لشعب واحد دولتان وسجنان» كما كتب شاعرنا عام 2007. وفي العام نفسه كتب قصيدته الشهيرة وعنوانها «لولا الحياء والظلام لزرت غزة»، والظلام قصد به ظلام «حماس» التي كانت سيطرت على غزة. ويقول في هذا الصدد: «صحوت من الغيبوبة على علَم بلون واحد يسحق علماً بأربعة ألوان، على أسرى بلباس عسكري يسوقون أسرى عراة، فيا لنا من ضحايا في زيّ جلادين».
كانت «حماس» تكره شاعر فلسطين وتكفّره وترفض الرمز الذي يمثله، فهو بنظرها ليس سوى علماني، «شيوعي الهوى والعقيدة والميول». أما درويش فلم يوفّر «حماس» من نقده القاسي، وقال مرة عن جماعتها: «يميلون إلى فرض مبادئهم على الجميع، وهم يؤمنون بالديمقراطية لمرة واحدة من أجل الوصول إلى صناديق الاقتراع والحكم فقط. إنهم كارثة على الديمقراطية». واتهمته «حماس» بصمته عن فضائح حركة «فتح» و «فظائع لصوص الأموال الفلسطينية» ولكنْ فاتها أنه وجّه نقداً شديداً إلى السلطة وحمّلها أخطاء كثيرة ما كان يجب أن ترتكبها.
قد يكون هذا سجالاً فلسطينياً أهلياً. لكنّ الحرب الشنيعة والمجرمة التي تشنها إسرائيل على غزة تفرض استرجاع رؤية محمود درويش إليها وما تمثّل من معان في دخيلته. ولو كان حيّاً وشهد ما يحدث الآن من مجازر وقصف وهدم، لكتب نصاً أرهب من نصه «صمت من أجل غزة»، نصاً مدوياً، ولكن على طريقته الفذة. أمام مشهد هذا القتل الجماعي لا يبدو الصمت مجدياً، مهما بلغ من عنف داخلي وقدسية ورفض. مثل هذا المشهد يفترض منا أن نصرخ بأعلى صوتنا، كما قال الكاتب دومينك دو فيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، في مقال له عن مذابح غزة. مثل هذا المشهد التوراتي يفضح حضارة العصر الحديث، يفضح حضارة العولمة، حضارة الثورات العلمية. هل ما زال مسموحاً اليوم أن يسقط الأطفال بالمئات تحت القصف أو ببنادق القناصة الإسرائيليين؟ هل ما زال مسموحاً استخدام مثل هذا العنف البربري الذي يسحق البشر بلا رحمة ويهدم المنازل والأحياء بلا هوادة؟ هل ما زال مسموحاً تهجير الناس في العراء وتحت الشمس؟
كتب المفكر الصهيوني برنار هنري ليفي معبراً عن استيائه من العرب الذين لا يبكون إلا على الضحايا الفلسطينيين في غزة، متجاهلين الضحايا الذين يسقطون في سورية والعراق وليبيا تحت قذائف البعث و «داعش» وسائر الحركات الأصولية. يحاول ليفي أن يرفع وصمة العار عن جبين إسرائيل، الدولة التي ما برحت منذ عقود تمارس أشنع أشكال القتل، فاضحة تآمر الغرب وتواطؤه. قد يشبه العنف الذي يمارسه مثلا النظام السوري، رائد الصمود والتصدي، أو عنف حركة «داعش» العنف الذي يتقنه الجيش الإسرائيلي، لكنّ العنف العربي لا يبرر العنف الصهيوني. كلاهما عنف لكنّ إسرائيل لم ترتكب، منذ احتلالها فلسطين سوى العنف، العنف فقط. وكم أخطأت حركة «حماس» في توقيت إطلاق صواريخها على الأراضي المحتلة. توقيت «حماس» مخطئ دوماً. إنها هي التي تمنح الجزار الإسرائيلي الفرصة المناسبة لينقض على غزة ويدمرها. لعله «الظلام» الذي تحدث عنه محمود درويش لا يدع لأهل غزة أن يتمتعوا بضوء شمس غزة وبزرقة بحرها وسمائها.