قبل أيام عاد أحد أصيْحابي من سفر وأهداني كتاب الصحفي الأميركي غلينوولد الموسومَ بـ”نو بْلَيْسْ تُو هايدْ”. (لا مكان للاختباء). قدم لي صاحبي الكتابَ قائلا: هذا كتاب يحكي قصة صاحبك إدوارد سنودن. وقد صدق. فإنْ أنس لا أنس ورود أولى صور الرجل وأنا داخل غرفة أخبار قناة الجزيرة، فأُهرعتُ إلى غرفة المنتاج لأصبحَ من أوائل من رآه وسمع منه؛ فاضحاً واشنطن. ومن يومها أضفته لقائمة “أعلام النبلاء” من أمثال جوليان أصانج وسابقين آخرين.
عدت بالكتاب ونحيتُه منتظرا فرصة للاطلاع عليه، إلى أن فتحت الصفحة الأولى منه بعد ذلك بأيام فوجدتني أنتقل ما بين مكتب الغارديان في نيويورك وفنادق هونكونغ، ومطار صان باولو إلى أن أتيت عليه ورقة ورقة. كان كتابا ممتعا ومليئا بالمعلومات… ومخيفاً جدا.
يشرح غلين وولد في هذا الكتاب (الناشر: ميتروبوليتان- نيويورك، 2014، 259 صفحة) قصةَ تواصله مع موظف السي. آي. أي. والمتعاقد مع وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن.
يحكي غلين أن بداية الخيط بينهما كانت حينما وصلته رسالة إلكترونية في أحد الأماسي موقعةً باسم: سينسيناتيوس. يطلب سيناتيوس من غلينوولد أن يجد طريقة ما لتأمين بريده الإلكتروني حتى يتمكن من التواصل معه. لكن غلين حينها لم يكن على أي دراية بالرسائل المشفرة فاستغرب الطلب وتجاهل الطالب.
غير أن السيد سيناتيوس ظل يبعث الرسائل ملحا على غلينوولد أنه اختاره من بين الصحفيين لأن لديه ملفات مهمة يود مشاركته إياها لكنه لا يأمن وسيلة التواصل.
قرر غلينوولد الردَّ على الرجل بعد أن أمطره بمواعظ أمنية منها أن القائد العالم للقوات الأميركية ديفد بترويوس فقد أسرته وعملَه بسبب كون تواصله مع صديقته كان عبر بريد غوغل وهو بريد استطاعت السي. آي. أي. الصول إليه. فلو ابتغى له إميلا مشفرا لظل بمفازة من أعين المخابرات ولتمكن من مده بملفات مهمة.
بعد قصة طويلة اقتنع غلينوولد وحمّل على محموله –بإرشاد من سانتيتيوس- برامج تشفيرية مكنتهما في النهاية من الحوار مباشرة عبر دائرة مغلقة. لم يكن المختبئ وراء الاسم المستعار سانتيتيوس غير إدوارد سنودن.
كشف سنودن لغلينوولد أن بحوزته وثائق مهمة يود إطلاعه عليه وأخبره أنه في هونغ كونغ ويود لو قدم إليه. ثم يطيل الكاتب في سرد قصة محاولته إدخال صحيفة الغارديان التي يكتب لها على الخط من أجل الحماية القانونية، كما يطيل وصف شكوكه بداية في هذه الشخصية الغربية ومدى صحة دعواها، وأنى تستقيم دعواها مع كونها في هونغ كونغ.
طلب غلينوولد من سنودن –لم يخبره باسم بعد- أن يزوده ببعض الوثائق كي يقتنع بضرورة السفر إليه فبعث له ملفات جعلت جفونه تجافي النوم ليال.
حمل غلينوولد صيده الثمين ودخل على مديرة مكتب الغارديان في نيويرك وأراها بعض الوثائق فكادت تُصعق من هول ما رأت.
قررت الغارديان إرسال غلينوولد على أول طائرة إلى هونغ كونغ، ثم بدأت التواصل عبر محاميها بالبيت الأبيض لتخبرهم نيتها نشر وثائق عن وكالة الأمن القومي.
وصل غلينوولد إلى هونغ كونغ فيما يخيل إليه أن كل عين عليه، وكل حائط ينصت له.
ثم دخل الدائرة المغلقة لحظة وصوله الفندق، ليتواصل مع سانتيتيوس. وضرب الموعد للقاء غدا باركرا.
ثم يفصل غلينوولد الاحتياطات الاستثناية التي يتخذها اسنودن. حيث طلب من غلينوولد ومرافقته قائلا: “نلتقي في المكان الفلاني في الفندق الساعة العاشرة، وإن تأخرت دقيقيتن، فغيرا مكانكما لنلتقي في المكان الفلاني الساعة 10:20. العلامة أن بيدي قبعة صفتها كذا وكذا”.
كم كانت مفاجأة غلينوولد عندما التفت ليرى شابا أبيض نحيف التجاعيد هادئ القسمات يشعرك منظره أنه طفل بالكاد يكمل العشرين. كان البعبع الذي في ذهن غلينوولد رجل ستيني وضع مستقبله وراء ظهره وقرر التكفير عن خطاياه بكشف بعض فضائح عالم المخابرات.
طلب منهما سنودن مرافقته –لحد اللحظة لا يعرف اسمه ولا صفته ولا أي معلمومة عنه- فأخذهما إلى غرفة في الفندق.
ما إن دخلوا الفندق حتى طلب منهما أن يعطياه هاتفيْهما ليضعهما في الثلاجة، ثم عمد إ لى الباب فوضع عليه عدة مخدات. ثم التفت إليهما مبتسما قائلا: “إن وجود الهاتف في الثلاجة يشوش على التصنت؛ علما أن ما سنقوله الآن سينتهي بأيدي وسائل الإعلام في النهاية”.
وضع غلين وود –والصحفية المرافقة له لورا- الكاميرا وبدأ سنودن يتحدث في المقطع الذي رأته الدنيا كلها بعد ذلك بأسبوع: “اسمي إدوارد سنودي وعمري 29 عاما”.
استمر الحوار لمدة خمس ساعات سأل فيها غليتوولد عن كل شيء. عن نشأته وعن طبيعة عمله وعن أهدافه من هذه التسريبات الأخطر في التاريخ الأميركي، وعن مدى وعيه بخطورة الأمر على حياته.
هنا كان مربط الفرس بالنسبة لي.
إذ كان حديث الرجل عن نفسه مُنبِئاً عن نفس أبية صادقة تكره الظلم. إذ قال إن البداية كانت في 11 من سبتمبر، عندما قرر الانخراط في الجيش الأميركي لتحرير العراقيين من نير الاستبداد الذي حدثه عنه الإعلام الأميركي.
ثم يحكي أنه عندما انخرط في مرحلة التدريب أصيب بكسر في رجليه، ثم فوجئ داخل ثكنات الجند بسماعه “حديثا عن قتل العرب أكثر من الحديث عن تحرير أي كان”. ( ص 40) فبدأ يشك وينتبه.
في المقال القادم سنتكلم عن قصة التحاق الرجل بالسي آي أي ثم وكالة الأمن القومي وصولا لقراره فضح تجسس واشنطن على الدنيا.