قبل وبعد وأثناء الدورة البرلمانية وقع جدل سياسي وقانوني وفقهي حول مدى شرعية اللجوء إلى المادة 38 من الدستور لتمرير التعديلات الدستورية المنبثقة عن الحوار الوطني الشامل ،هذا الجدل الذي حدا بالبعض إلى القدح والتجريح والبعض الآخر إلى التشكيك والتفرقة بين القانونين واختزال أحقية نقاش هذه الأمور في الفئة الدستورية ،وان كان الأمر ابسط من ذلك فالتقسيم أصلا تقسيم منهجي تدريسي ليس إلا .
وإن كنا لا ندعى التخصص في هذا المجال ،إلا أنه يمكننا الإدلاء برؤيتنا في الموضوع إثراء للفقه القانوني، فهو يثير الكثير من الإشكالات المترابطة والمتداخلة أحيانا مثل مرونة الدستور وجموده، وهل الدساتير لا تقبل التغيير أو التبديل ،وما هي طرق تعديلها أو إلغائها؟
وما هي السلطات التي لها حق مبادرة مراجعة الدستور وما هي الحالات التي يتم اللجوء فيها إلى الاستفتاء ،وما مدى وجاهة تلك التعديلات وما هي المسائل التي لا تقبل المراجعة الدستورية؟
كل هذه الأسئلة وغيرها سنتناول الإجابة عليها من خلال خمسة نقاط أساسية:
أولا: إلغاء الدساتير وتعديلها
قد علمنا أن الدساتير تضع القواعد العامة التي تبين طبيعة نظام الحكم والعلاقة بين السلطات وتحدد حقوق الأفراد وواجباتهم، لذى كان لزاما عليها أن تبقي لفترة معقولة حتى تستتب أمور المجتمع وتستقر لكن ذلك لا يعني أنها مؤيدة لا تقبل التغيير أو التبديل ، فقد تطرأ ظروف أو تطورات في المجتمع تقتضي ضرورة إدخال تعديل عليها أو حتى إلغائها أو استبدالها،كل هذا قد يتم إما عن طريق ثورة شعبية أو انقلاب أو غير ذلك من أشكال التغيير المفاجئ وهذا ما يسمي بالأسلوب الثوري ، أو عن طريق عادية وذلك من خلال مبادرة من طرف رئيس الجمهورية أو البرلمان ويسمى هذا بالأسلوب العادي .
ثانيا : التعديل في القانون المقارن
انطلاقا من أن مبدأ فصل السلطات يقتضي ان تتضح صلاحيات وملامح كل سلطة وأن تقف كل سلطة للأخرى بالمرصاد، الا انه عمليا يتفاوت تطبيق هذا المبدأ من حيث النظام السياسي المتبع ، فقد يغلب جانب البرلمان فنكون أمام نظام برلماني ، وقد يغلب جانب السلطة التنفيذية فنكون أمام نظام رئاسي ، وقد يمزج بينهما معا فنكون أمام نظام شبه رئاسي ، وهذا هو الحاصل في بلدنا إلا انه يميل أكثر إلى الرئاسية بخطوات .
ولعل النظام شبه الرئاسي في الجمهورية الخامسة الفرنسية يعتبر مصدرا موضوعيا وتاريخها لبلدان المغرب العربي ، والذي امتاز بكثرة اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي في عهد الجنرال ديغول استنادا إلى المادة 11 من الدستور الفرنسي التي تحدد الحالات المبررة لذلك بقولها << يجوز لرئيس الجمهورية بناء على اقتراح مشترك من المجلسين ينشر في الجريدة الرسمية ان يعرض على الاستفتاء أي مشروع قانون يتضمن تنظيم السلطات العامة أو الإصلاحات المتعلقة بالسياسة الاقتصادية أو الاجتماعية أو البيئية وبالمرافق العامة التي تساهم في ذلك ...>>الخ
وقد لجأ الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول الى طرح مسألة انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام المباشر على الاستفتاء الشعبي28أكتوبر 1962 رغم ما لقي من اعتراض البرلمانيين المتسلحين بالمادة 89 من الدستور نفسه ، ومع ذالك فقد نجح في تمرير هذا التعديل وأصبح رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع العام والمباشر بموجب إصلاح 6 نوفمبر 1962 غير أن الرياح تجري أحيانا بما لا تشتهيه السفن ، حيث قدم استفتاء بتاريخ : 27ابريل 1969 حول الجهوية وإلغاء مجلس الشيوخ وتم رفضه من قبل الشعب الأمر الذي أدى به إلى الاستقالة والانسحاب من العمل السياسي .
وتظهر مقتضيات هذه المادة في دساتير بلدان المغرب حيث تحمل رقم 8 في الدستور الجزائري و 16في الدستور التونسي رقم 38 في الدستور الموريتاني.
ثالثا : طرق تعديل الدستور الموريتاني
يرى البعض عن قصد أو غير قصد أنه لا يمكن مراجعة الدستور إلا من خلال الباب الحادي عشر المعنون بمراجعة الدستور ، فقد نصت المادة 99 على أن لرئيس الجمهورية وأعضاء البرلمان حق مبادرة مراجعة الدستور ، لكن كيف يتم ذلك؟
التعديل من طرف البرلمان
للبرلمان بغرفتيه مبادرة مراجعة الدستور إذا وقعه على الأقل ثلث أعضاء 3/1 إحدى الغرفتين ليتم بعد ذلك المصادقة على المشروع إذا صوتت عليه ثلثا 3/2 أعضاء الجمعية الوطنية وثلثا أعضاء مجلس الشيوخ ليتسنى بعد ذلك تقديمه للاستفتاء ، فإذا حاز على الأغلبية البسيطة من الأصوات المعبر عنها اعتبرت المراجعة النهائية (المادة 100) .
و قد يحدث أحيانا أن تصادق إحدى الغرف وتمتنع الأخرى كما هو الحال عندنا رغم أن المبادرة مقدمة من طرف الحكومة فما هو إذن مصير هذه التعديلات وما هو الحل في هذه القضية؟
الجواب ليس بالأمر البسيط حيث لم تتطرق مواد المراجعة الواردة في الباب الحادي عشر لحل هذه المعضلة لذا كان لزاما علينا أن نبحث عن حل في الدستور نفسه ، وهنا تأتي المادة 24 لتدلنا على الطريق حيث نصت على أن رئيس الجمهورية هو حامي الدستور وهو الذي يجسد الدولة ويضمن بوصفه حكما السير المضطرد والمنتظم للسلطات العمومية ،لتأتي بعد ذلك المادة 38 لتدلنا على الوسيلة التي بيد رئيس الجمهورية والتي يمكن أن يضمن بها هذا السير المضطرد والمنتظم ، ألا وهي الاستفتاء .
2 التعديل من طرف رئيس الجمهورية
إذا تتبعنا مواد الدستور نلاحظ أن لرئيس الجمهورية كامل الحق والسلطة في إتباع إحدى الطريقتين :
الأولى منهما ان يعرض الأمر على البرلما بغرفتيه الجمعية الوطنية أولا ومجلس الشيوخ ثانيا فاذا تمت المصادقة عليه من طرفهما فله الخيار ان يعرضه على الاستفتاء بعد ذالك فاذا نال الاغلبية البسيطة من الاصوات المعبر عنها كانت المراجعة نهائية ، أو يعرضه على البرلمان مجتمعا في مؤتمر ، وفي هذه الحالة لا يصادق على مشروع المراجعة ما لم يحصل على أغلبية ثلاثة أخماس 5/3 الأصوات المعبر عنها ،و اذا لم تتم المصادقة عليه من طرفهما او من طرف أحدى الغرف هنا نفرق بينما اذا كان الاعتراض من طرف الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ ، فإذا كانت الجمعية الوطنية فان المشروع يمكن ان يحال الى لجنة مشتركة مكلفة باقتراح نص متعلق بالإحكام موضوع المداولة ، وتستوي معه في هذه الخاصية ما اذا كان الأمر ن طرف مجلس الشيوخ الا انه في كل الأحوال اذ لم تتم المصادقة فان الحل يكمن في المادة 38 ، و اذا كان الاعتراض من طرف مجلس الشيوخ كما هو الحاصل الآن فانه بعد الإحالة إلى الجنة المشتركة يطلب من الجمعية الوطنية البحث في الأمر نهائيا ويسحب البساط من طرف مجلس الشيوخ المادة 66 ، وذلك راجع إلى الفرق بين كيفية انتخاب هاتين الهيئتين وهذه إحدى هذه الخيارات لدى الحكومة قبل اللجوء إلى المادة 38.
الثانية لدى رئيس الجمهورية : ان يعرض الأمر على الاستفتاء وفقا للمادة 38 التي تعطي لرئيس الجمهورية كامل السلطة والصلاحية في استشارة الشعب ، عن طريق الاستفتاء في كل قضية ذات أهمية وطنية ، ولم يتم تقييد هذه المادة فقد وردت بصيغة الإطلاق إذ لم تحدد وتحصر المسائل التي يمكن لرئيس الجمهورية ان يلجأ فيها للاستفتاء، فكل المسائل ذات الأهمية الوطنية يمكن ان تكون موضوعا للإستفتاء إلا إذا ورد فيها نص صريح ، فلو أراد المشرع ان يحد من صلاحيات رئيس الجمهورية في الاستفتاء كما فعلت المادة 11 من الدستور الفرنسي والمادة 8 من الدستور الجزائري لفعل .
وخير دليل كذالك على إطلاق يد رئيس الجمهورية في الدستور نفسه حيث نصت المادة 40 على انه ليس للرئيس بالنيابة أن ينهي وظائف الحكومة ولا أن يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء ، ولا ان يحل الجمعية الوطنية وهذا يستفاد من مفهوم المخالفة .
وعلى الرغم من ذالك فيمكن ان تثار طبيعة هذه المسائل ذات الأهمية الوطنية ؟
إن تحديد طبيعة القضايا ذات الأهمية تظل مسألة خلاف حسب التوجيهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية و الأمنية ، لكن اذا رجعنا الى الدستور نفسه نجد بعض القضايا التي يمنع الدستور عرضها للإ ستفتاء قصد التعديل وهي التي حددتها الفقرة الأخيرة من المادة 99.
أما النوع الثاني من القضايا فالمختص بتحديده هو رئيس الجمهورية ولا أحد غيره لأنه المخول دستوريا بذالك ، فلا البرلمان ولا مؤسسة المعارضة ولا الأحزاب السياسية ولا المؤسسات الدستورية تملك تحديد القضايا ذات الأهمية ، وان جاز لها وللرأي العام المساهمة في القيام بدور في تحديد هذه القضايا مجازا إلا أن من له الحق هو الرئيس وهو الذي يقرر ما الذي يتعين عرضه على الاستفتاء.
ولنا أن نتساءل إذا لم تكن القضايا التي تمخص عنها الحوار الوطني الشامل كحل مجلس الشيوخ وإلغاء المجلس الإسلامي الأعلى ووسيط الجمهورية وتغيير شكل العلم الوطني وإنشاء مجالس جهوية ودسترة بعض المؤسسات مثل السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية ومجلس الفتوى والمظالم ذات أهمية وطنية فما عساها تكون هذه القضايا؟
إذن لرئيس الجمهورية وحده الحق في أن يستفتي الشعب في كل قضية ذات أهمية وطنية من دون عرض الأمر على البرلمان لأنه منتخب باقتراع عام مباشر وعن طريق كل الدوائر الإنتخابية عكس غالبية النواب أحرى مجلس الشيوخ ، والقول بغير هذا ينافي حق الشعب الطبيعي في أن تعرض عليه القضايا دون المرور بالبرلمان، فالشعب هو صاحب السيادة ومصدر كل سلطة ويمكن أن يمارسها عن طريق ممثليه المنتخبين وبواسطة الاستفتاء ولا يحق لبعض الشعب ولا لفرد من أفراده أن يستأثر بممارستها (المادة 2)
رابعا : القيود الواردة على المراجعة
حددت المادة 99 من الدستور المسائل التي لا تقبل المراجعة العادية نسبيا وأقول نسبيا ، وذلك في فقرتها الأخيرة بقولها<<...لا يجوز الشروع في أي إجراء يرمى إلى مراجعة الدستور إذا كان يطعن في كيان الدولة أو ينال من حوزة أراضيها أو من الصيغة الجمهورية للمؤسسات أو من الطابع التعددى للديمقراطية الموريتانية أو من مبدأ التناوب الديمقراطي على السلطة والمبدأ الملازم له الذي يحدد مدة ولاية رئيس الجمهورية لخمس سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة وذالك طبقا لما تنص عليه المادتان 26، 28 المذكورتان سالفا >>.
وقد لا يصمد هذا التحصين أمام المادة 38 اذا ما قرر رئيس الجمهورية نسف الدستور وقلبه رأسا على عقب ، ومن ألفه الى يائه وعرضه على الاستفتاء الشعبي ، واذا وافق عليه الشعب فلا معقب لحكمه ولا يمكن إرغامه على تقرير جيل أو رأي عام في فترة معينة ويبقى حبيس تلك الأفكار والرؤى ، فالرؤية تتغير والمجتمع يتطور فتتطور تبعا لذالك القاعدة القانونية ، كما ان الأجيال المقبلة لم تشارك في هذه الفترة و لا يمكن إلزامها بذالك إذا ما كنا نحتكم إلى قواعد اللعبة الديمقراطية .
خامسا : أهمية التعديلات ووجاهتها
بعد عرضنا لطرق تعديل الدستور ومدى وجاهة استخدام المادة 38 نشير الى ان هذه التعديلات ذات أهمية قصوى فإلغاء مجلس الشيوخ واستبداله بمجالس جهوية تخدم المواطن أكثر وتساعد في التنمية وإلغاء بعض المجالس ودمجها كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الإسلامي الأعلى من اجل ترشيد الإنفاق العام لهو حجر الزاوية و المبتغي في كل عملية تنموية ،وكذلك إلغاء محكمة العدل السامية ودمج اختصاصها في نطاق اختصاص المحكمة العليا من شأنه توحيد عملية التقاضي وتبسيط إجراءاته وتقريبها من المتقاضين، وإضافة خطين أحمرين إلى العلم الوطني يعد اعترافا لما بذلته المقاومة من تضحيات من اجل نيل الاستقلال وهذا دين يجب علينا جميعا سداده ،و حسنا فعل رئيس الجمهورية بدعوته إلى الحوار الذي تم تنظيمه بعناية والذي أسفر عن هذه التعديلات المهمة .
وفي الختام أذكر الذين ينكرون اللجوء إلى تعديل الدستور وفق آلية المادة 38 أن المأموريات المحضة أتت سنة 2006 عبر الاستفتاء ولم تمر بالبرلمان مما يعني أيضا عدم شرعيتها وعدم دستوريتها وفق منطقهم الأمر الذي يعطي لرئيس الجمهورية إن هو اتبع منطقهم الحق في الترشح لمأمورية ثالثة ورابعة و خامسة إلى ما شاء الله كما ينص على ذلك الدستور قبل هذه التعديلات التي أجريت بعيدا عن البرلمان.
إذن عليهم أن يختاروا بين الاعتراف بإمكانية الاستفتاء وشرعيته وأهميته وإلا فعليهم مواجهة احتمال فتح المأموريات كما كان سابقا.
إعداد ذ.د/ باب ولد مولاي أشريف
رئيس اللجنة القانونية في حزب الحراك الشبابي