غزة اليوم تستعيد حكمة عسكرية قديمة استنبطها القائد طارق بن زياد فحقق بها نصرا عظيما دام مجده من بعده تسعة قرون أندلسية متتالية، فخلده زعيما عسكريا أسطوريا نادر الاستنساخ والإعادة.
فـ"إما النصر وإما الشهادة" كما نحت ذلك في يوم مشهود خبير وعارف بأسرار المقاومة وخفايا الجهاد والفداء البطولي، إنه عمر المختار الذي قضى ردحا من عمره في قتال عدو استعماري شرس قبل أن يستحيل أحد سادة الشهداء العظام.
في غزة يحيا مليونان من البشر الاستثنائيين العابرين للطبيعة البشرية التقليدية التي تخاف الموت وتهاب رهبته، هم جزء لا يتجزأ من شعب الجبارين الذي تنامى وتزايد وتكاثر بعد أن فشل عدوه الصهيوني في اجتثاثه منذ الانتداب البريطاني وإلى اليوم، وبعد أن ساعدته فطنته الحضارية وذكاؤه السياسي المتشكل في قلب المواجهات بأصنافها المتعددة على الإدراك المبكر بأن هناك حربا ديمغرافية قادمة ستساعد على قلب المعادلة.
في غزة تستوطن الشهادة ويسكن الشهداء الحقيقيون والقادمون والمحتملون، شيوخا كانوا أم نساء وأطفالا ورجالا مقاتلين أشاوس، فالكل بدون استثناء بداية ممن هو نطفة أمشاج وصولا إلى الذين ردوا إلى أرذل الأعمار، الكل مشروع شهادة.
"في غزة تستوطن الشهادة ويسكن الشهداء الحقيقيون والمحتملون شيوخا كانوا أم نساء وأطفالا ورجالا مقاتلين أشاوس، فالكل بدون استثناء بداية ممن هو نطفة أمشاج وصولا إلى الذين ردوا إلى أرذل الأعمار، الكل مشروع شهادة"
فلا مهرب أمام الغزاويين ولا ملاذ ولا خيار سوى المواجهة والمقاومة بعد أن توسعت رقعة الأعداء المحيطين بهم فدفعوهم إلى حرق جميع مراكبهم ليأمنوا إلى أنفسهم ومقدراتهم الذاتية فقط ولا يعولوا على غيرها، وربّ ضارة نافعة كما هو مستبطن في المخيلة الشعبية فقد رفعت غزة عن نفسها وصاية الدول العربية ونظامها الإقليمي المتهالك المتداعي.
لا أحد الآن يستطيع التكلم والتفاوض باسم غزة وعموم فلسطين سوى الغزاويين وفصائلهم الوطنية والإسلامية المقاومة المقاتلة من أجل الثأر لشرف أمة دام انتهاكه فطال وأزمن.
ومن أجل إسقاط خدعة أوسلو التي وقعت أمتنا في شراكها بعد العدوان على العراق سنة 1991 الذي أحرق ذلك البلد العريق وأعد بعض الأنظمة العربية المشاركة فيه للانهيار ولو بعد حين، فذهب ضحية أوسلو ومدريد المزعومين قائد كبير بحجم أبو عمار، وقادة آخرون لا يقلون وزنا في الكيل الوطني المقاوم المناضل المجاهد من أحجام أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأبو علي مصطفى.
كما سجن نتيجة تلك الخدعة السياسية التاريخية طيف آخر من القادة من أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات وآلاف مؤلفة من عموم الفلسطينيين الذين باعوهم وكالوهم وهم الدويلة التي كانت مساحتها بالكسور العشرية من وطن فلسطين، والتي سرعان ما تحولت إلى محتشد واسع تحرسه عصابات ولدت من رحم الجريمة التاريخية للإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس قبل أفولها، لا سيما وعدها البلفوري الأثيم.
فها هي غزة تنتقم لأولئك القادة مجتمعين على تنوع واختلاف مشاربهم، وتبدأ في تخليص فلسطين من نتائج النكبة والنكسة وعدواني 1991 و2003 على العراق الأبي الذي أُعيق نموه وتطوره الطبيعيين بعد أن كان عنصر التوازن الرئيسي في المنطقة، فتلغي الآثار السياسية السلبية الوخيمة لذلك العدوان الآثم ونتائجه على فلسطين وتعيد ترتيب خارطة التوازنات العسكرية الإستراتيجية للمنطقة بأسرها، وتحبّر على صفحات التاريخ العسكري خططا ومناهج جديدة ومصطلحات حربية وقاعدة اقتصادية بأكملها، هويتها "أنفاق" لم تعرفها كبريات الحروب من قبل لا شك في أنها ستعرض بقاعات الدرس في الأكاديميات العسكرية العريقة، وستقضّي أجهزة المخابرات في الدول الكبرى الليالي الطوال في فك شفراتها وتفكيك ألغازها، وستقتدي بها حركات المقاومة والتحرير في كل مكان ينتصب فيه الاستعمار وصيا على هذا الشعب أو ذاك.
فالأنفاق وحدها من استطاعت اختراق النظام العسكري الإلكتروني الذكي المهيمن الذي من أبرز تجلياته في هذه المرحلة نظام القبة الحديدية المبشر بجدواه الفائقة.
غزة لا تنهي أسطورة جيش الدولة العبرية الذي لا يهزم ولا يقهر فقط، وإنما تنطلق في رد الاعتبار للجيوش العربية التي هزمت وأبيدت قواعدها في ست ساعات رغم صدق الإرادة السياسية للزعيم جمال عبد الناصر.
وتستأنف أيضا معركة الكرامة وحرب الاستنزاف وتغتسل من مآسي سبتمبر/أيلول الأسود في الضفة الشرقية لنهر الأردن والعاصمة عمّان ولو بعد نصف قرن، وتغسل العار الذي لحق ببيروت عاصمة العرب المجتباة زمن احتلالها سنة 1982 المصحوب بالمجزرة النكراء في صبرا وشاتيلا وبمغادرة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس والجزائر واليمن.
"غزة وحدها من وضعت عاصمة العدو ومدنه ومستعمراته وقادته ومطاراته ومفاعلاته النووية وأكاذيبه في السلام وتفوقه العسكري الإستراتيجي تحت رحمة صواريخ ونيران فصائلها الوطنية والإسلامية المقاومة فغيّرت المعادلة"
وتنتصر أيضا للشهيد المهندس في الطاقة الذرية يحيى المشد المغدور به من قبل الموساد، وللمفاعل النووي العراقي الذي دكته الطائرات الصهيونية سنة 1981، وترد الاعتبار لتونس ضد العدوان الصهيوني في حمام الشط، وتفضح مزاعم التعايش التي نادى بها بورقيبة في أريحا سنة 1965 ومبادرات "السلام" التي بشرت بها قمم البهتان العربية في فاس وغيرها، بل وتحيي شعار قمة الخرطوم التاريخية على إثر هزيمة 1967 بأن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
غزة وحدها من وضعت عاصمة العدو ومدنه ومستعمراته وقادته ومطاراته ومفاعلاته النووية وأكاذيبه في السلام القائم على هوان "الأرض مقابل السلام" وتفوقه العسكري الإستراتيجي تحت رحمة صواريخ ونيران فصائلها الوطنية والإسلامية المقاومة فغيرت المعادلة.
ولم يعد العرب وعواصمهم ومختلف مصالحهم فقط تحت التهديد الصهيوني وإنما أصبحت كذلك دولة الاغتصاب وشعبها اللقيط تتجرع نفس المرارة والمهانة والذل بعد مقتل مئات الجنود الصهاينة وانتحار آخرين أو أسرهم وفقدان الكيان المحتل الغاصب لأمنه بالكامل، حتى بات مطلب وقف إطلاق النار رغبة "إسرائيلية" وأميركية لكي لا يحدث الانهيار الشامل لكيان الشعب الموهوم الموعود بأساطير استعباد واسترقاق بقية الشعوب وأفضل أخيارهم من النساء والرجال.
إنه ليس طلبا عربيا أو فلسطينيا فقط، ورجاء فاستسلاما فقبولا بالأمر الواقع كما كان يحدث طوال 66 سنة رغم حجم الدمار والخراب الهائل الشبيه بالزلازل والكوارث الكبرى والتصفية على أساس الدم والعرق والثقافة والهوية والمعتقد وقتل الأنفس البريئة التي حرم الله إلا بالحق.
في غزة تسود ديمقراطية فريدة النوع والمذاق السياسي، إنها الديمقراطية المسلحة التي تتعايش فيها البنادق وأسلحة المقاومة بفصائلها الـ18 ذات الانتماءات الوطنية والإسلامية والعروبية واليسارية، فلا تصوب نحو صدر فلسطيني مهما بلغت الاختلافات، وجهتها الوحيدة هي الكيان الغاصب فتعطي درسا للملل والنحل والشيع السياسية والطائفية والقبلية التي حولت أوطانها إلى ركام وأنهار من الدماء السائلة في العراق وليبيا ومصر واليمن وكذلك في تونس التي يظهر فيها الاختلاف السياسي في شكل صراع الديكة بين أطراف طالما تشدقت بالديمقراطية واحترام التنوع والاختلاف ونتائج الصندوق الديمقراطي وسوقت لكينونتها الوطنية ذات الأولوية.
لقد تحولت بعض تلك الأطراف عديمة الأصل الديمقراطي ووليدة شجرة الاستبداد ذات الرائحة الكريهة إلى غربان ناعقة تزايد على غزة ومصداقية بعض فصائلها الإسلامية، وتتهمها باختلاق معركة لصالح أطراف غير فلسطينية فقدت ألقها في الصراع على السلطة في أكثر من بلد عربي.
ويتعلق الأمر خاصة بمصر التي تنصلت من دورها التاريخي ومن مسؤوليتها الأخلاقية تجاه الفلسطينيين بوصفها الأخ الأكبر المؤتمن على كافة قضايا العرب التي تناقش وتحسم في دارهم (جامعة الدول العربية)، وتعطيها نصائح ودروسا في الاستسلام والخيانة وتدعوها إلى تسليم أسلحتها إلى عدوها وعدو جميع الأحرار في الكون حقنا لدماء الأطفال وكأن الدولة الغاصبة المجرمة تقتل وتدمر وتستبيح الحرمات وتذبّح الأطفال والنساء والشيوخ العزّل للمرة الأولى في تاريخها المزور لحقائق التاريخ وأديم الأرض.
هم أنفسهم المصابة ذاكرتهم بالزهايمر تجاه القضية الفلسطينية المتجاهلين لمحطات القتل وتدمير الفلسطينيين والعرب منذ ثورة القسام وإلى اليوم، مرورا بدير ياسين وبحر البقر وصبرا وشاتيلا وقانا وغيرها من مناسبات القتل والتصفية الجماعية.
"لم يعد تحرير فلسطين مستحيلا بشرط نبذ دعاوى القبول بالأمر الواقع ودفع ضريبة الدم الغالية التي لا مفر من دفعها كما في ملحمة غزة التاريخية المتميزة التي تمكنت من قلب المعادلة الإستراتيجية لصالح قضية فلسطين وشعبها "
إنها الغربان الناعقة التي تدعو إلى تسليم المقاومة الفلسطينية أسلحتها تيمنا بتجارب قديمة في خيانة العهود والمواثيق الموقعة من قبل لجان التحرير المشتركة واستجابة لغرور السلطة وجموحها لدى بعض الحكام الجدد الذين يضحون بغزة وشعبها والزج بها في معاركهم السلطوية الداخلية متخلصين من تاريخ أرض الكنانة المملوء بالحروب والشهداء من أجل القدس وغزة وكل فلسطين، والمتبنين دور الوكالة في إجهاض تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية الظاهرة الأنبل في التاريخ العربي المعاصر لصالح سادة العالم الحر الذي يصف نفسه بالتنويري، والذي انبنى في الآن نفسه على جماجم الآخرين حيث تساءل عباقرة فلاسفته عن مبرر وجودهم أصلا.
والسؤال هنا طرحه الفيلسوف الألماني إيمنوال كانط على سكان هاييتي، وتستنسخه القوة السياسية الغربية الرسمية وريثة فلاسفة التنوير حول سكان غزة، لذلك تركوهم للموت الشنيع تحت يافطة حق الشعوب في الحياة.
لا شك في أن غزة لن تصغي إلى نعيق الغربان وستستمر في معركتها عسكريا أو سياسيا أو دبلوماسيا أو اقتصاديا أو إلكترونيا وافتراضيا بعد أن دمرت الأسطورة وأثبتت للعرب والعجم أجمعين بأن الجيش الصهيوني الذي لا يقهر ودولته العدوانية المدللة من قبل العالم الغربي هما أوهن من بيت العنكبوت.
وسيذكر التاريخ أن شعبا صغيرا محاصرا منذ عشر سنوات يفتقد أبسط مقومات الحياة الكريمة ملتحما بكتائبه القتالية وهو واعٍ كل الوعي بخياره، كان وفيا للشهداء وللأرض والتاريخ والمبادئ والمقدسات، واستطاع أن يعيد الأمل لجميع الأحرار بأن تحرير فلسطين لم يعد مستحيلا.
نعم ليس مستحيلا، ولكن بشرط نبذ دعاوى القبول بالأمر الواقع ودفع ضريبة الدم الغالية التي لا مفر من دفعها كما في ملحمة غزة التاريخية المتميزة التي تمكنت من قلب المعادلة الإستراتيجية لصالح قضية فلسطين وشعبها بعد أن كان ذلك ضربا من ضروب الوهم والحلم والخيال.
المصدر : الجزيرة