التبراع مذهب الموريتانيات في شعر الحب (نقلا عن مجلة العربي الجديد)

ثلاثاء, 2014-08-19 13:25

يعتبر المجتمع الموريتاني من أكثر المجتمعات العربية والأفريقية محافظة على منظومة تقاليده وأعرافه الاجتماعية والثقافية الصارمة التي تحظر علي المرأة البوح بمشاعرها العاطفية أو التعبير بأي شكل من الأشكال عن ما يختلج في صدرها من رغبات وأحاسييس تجاه محبوبها المجاز له التعبير عشقه وغرامه أمام الملأ، فيما يعتبر ذلك عيباً وحراماً على المرأة.

وأمام حالة كبت المشاعر هذه، استطاعت المرأة الموريتانية أن تفتح ثغرة في سور العادات والتقاليد السميك، مكنتها من إبداع لون أدبي جديد له ضوابطه وخصائصه الفنية البنيوية التي ميزته عن الأدب اللهجي الرجالي، الـ"لغن"، ويعرف هذا اللون، في الثقافة المحلية الشعبية، بـ"التبراع". ماذا عن مفهوم "التبراع"؟ وما هي أصداؤه الثقافية الاجتماعية؟ وهل بات ممكناً القول إن شبح الاندثار بدأ يلاحقه؟

تناول بعض المتخصصين في الدراسات الأدبية هذ اللون الأدبي بوصفه أحد أهم أجناس الأدب الموريتاني قديماً وحديثاً. عرّفه الشاعر ادي ولد آدبه بأنه "شعر نسوي لهجيّ، له قالب فني يعتمد على بيت ثنائي الشطرين مزدوج المصراعين في القافية، مخالفاً بذلك البنية الرباعية للشعر اللهجي الرجاليّ".

أما الشيخ سيدي عبد الله، المتخصص في الدراسات النقدية، فيرى أن كلمة "التبراع" هي تحريف لمصطلح "الترباع"، وهو ما يعني وجود علاقة تاريخية بين اسم هذا اللون الشعري في موريتانيا واسمه في باقي بلدان المنطقة (المغرب مثلاً)، التي يسمى فيها بـ"الرباعيات".  كاحتمال آخر، لا يستبعد الشيخ سيد عبد الله أن تكون الكلمة مشتقة من مصطلح عربي فصيح وهو "التبرع"، حيث أن المرأة تتبرع لحبيبها بـ"تبريعة" من دون أن تُعرف قائلة هذه التبريعة".

وتجنباً للإسهاب في دلالات المفهوم، فإن التراث الموريتاني، بقيمه المحافظة، هو من أنتج هذه الظاهرة الأدبية بنظرته إلى المرأة بوصفها كائناً يحتاج الرعاية والحماية. هكذا، جرت معاملة الأنثى بقسرية وتزمّت،  فكان "التبراع "بمثابة نفثة أرادت المرأة الموريتانية من خلالها الترويح عن قلبها المكلوم ونفسها المعذبة، محققة به مكانة ثقافية في مجتمع ذي ثقافة ذكورية.

سرية في الإنتاج وطقوس في الإنشاد

على الرغم من أن "التبراع "  لقي رواجاً في الأوساط الاجتماعية والثقافية، فسُمح بإنشائه وإنشاده، إلا أن المفارقة الغريبة في هذ اللون الأدبي هو أن مبدعاته في موريتانيا يحرصن كل الحرص على أن يظل حبيس الأضلع لا يبحن به إلا لأقرب صديقاتهن، في ظل حظر المجتمع على المرأة المجاهرة بما تتنجه من "تبراع"، وبالتالي يستحيل معرفة قائلة "التبريعة".

كما أن نساء "التبراع" يعمدن إلى استعمال الأسماء غير المتداولة في محيطهن للتغزل بالمحبوب، إذ ليس من "الجائز اجتماعياً" التصريح بالمحبوب في مضامين "التبراع". هكذا، سيُستبدل اسم المحبوب بآخر مستعار يحمل شفرة سرية تتمثل أحياناً في فعل رجاء أو تمني أو صيغة اسمية تدل لغوياً على أن التكتم على اسمه أمر مقصود.

وتأتي النساء عادة على ذكر سمات المحبوب الفيسيولوجية أو أخلاقه في شعرهن، ويتأسفن على غيابه أوعدم اكتراثه بمشاعرهن تجاهه.

وفضلاً عن السرية المحاطة بإنتاج "التبراع"، فإن طريقة إنشاده والاستمتاع به لا تقل سرية عما ذلك، حيث تنزوي النسوة بعيداً عن الأعين ليتغنين بالمحبوب وهن جالسات على كثيب رملي متدثرات بظلام الليل أو متخفيات في شعاب الأودية خارج مضارب الخيام، مع الالتزام بالرمزية والإيحاء في كل هذه السياقات.

لكن التكتم على هذا الإنتاج لم يحُلْ دون وصول روائعه إلى أسماع الناس، حيث جرى تداوله على نطاق شعبي واسع، بل وأكثر من ذلك، أصبح الفنانون يتغنون به في كل حفل أدبي وفني.

تقول إحدى الفتيات وهي تسجل حالة وجدانية اعترتها لحظة وداع الحبيب: "ليلة وداعو/ قلبي والساني ما راعو". وتقول أخرى: عند تبسيمه/ تحيي العظام الرميمة". وتعبر إحدى النسوة عما وصلت إليه من عشق لحبيبها  يفوق حب قيس بن الملوح لليلاه: "قيس ابن الملوح/ أطم آن من وشح"؛ (قيس بن الملوح، عشق لحبيبي تجاوز عشقه).

وهذه سيدة عاشقة تشكو من التقاليد والتقسيمات الطبقية في المجتمع الذي حرمها الزواج من حبيبها أو حتى الإفصاح لصاحباتها بحبه:"ويل مشقاني/ من عوايد موريتاني". وتعبر سيدة أخرى عن حالتها النفسية التي تعيشها أمام عشقها لجارها الذي تتمنى في آخر المطاف أن تجتمع به في منزل واحد: "سَعْدْ الشدُّ جارُ/ وِحْلفلُ مَا يِمْرِك دارُ"؛ (يا لحظّ مَن تتزوّج جارَها، فتقسم عليه بعدم مغادرة المنزل).

"التبراع" وشبح الاندثار

بين جنة الحب ونار المجتمع المحافظ وتقاليده، تبدع المرأة الموريتانية "تبراعاً" يقطر رقة وعاطفة. لكن عوامل عديدة بدأت تتكامل لتعصف بهذا اللون الشعري الصادق، إذ مع التغييرات العمرانية الجديدة، فضلاً عن دخول التكنولوجيا أكثر فأكثر على حياة الموريتانيين، لم تعد المرأة تجد في نفسها ذلك الحرمان من اللقاء بحبيبها الذي يولد لديها اللهفة والشوق الجارف.

كما أن بعض الرجال دخل على الخط  وأصبح يكتب "تبراعاً" يفتقد إلى الحرارة العاطفية التي يستمد منها جماليته. كما أن ظهور بعض "الأشوار" الغنائية القصيرة التي يمكن أن يجري فيها تلحين مثل هذا النوع الشعري أسهم هو الآخر في تحريف الصورة العاطفية التي ألفها الناس عن فن "التبراع".

نقلا عن صحيفة العربي الجديد