قرر مجلس الشيوخ الموريتاني – ممثلا في لجنة الأزمة- تعطيل الدور التشريعي المنوط به، ووقف التعاطي مع المشاريع التي تقدمها الحكومة، حتى تقوم الحكومة، ورئيس الجمهورية بتلبية جملة من المطالب – بعضها قد يكون تعجيزيا- ومن بينها ما أسماه الشيوخ "معاقبة" وزير التعليم العالي الدكتور سيدي ولد سالم، ورغم أن مجلس الشيوخ قد يضع اسم كاتب هذه الأسطر ضمن مطالبه، ويجعل حبسه، أو نفيه خارج البلد،
أو تجريده من جنسيته شرطا مسبقا ليقوم الشيوخ بعملهم، إلا أنني سأجازف، وأقوم على بركة الله بإبداء رأيي حول سلوك مجلس الشيوخ هذا، وأفوض أمري إلي الله.
لقد اتسم تعاطي الشيوخ مع التطورات السياسية مؤخرا بقدر كبير من الأنانية، والشخصنة، وتضخم الأنا، واحتقار الشعب، والاستهتار بمصالحه... نعم، هكذا تبدو لي الأمور، وسأبين ذلك، فالشيوخ "أنانيون" لأنهم غلبوا مصالحهم الشخصية على مصالح الشعب، وذلك عندما جعلوا المستقبل السياسي للبلد رهينة بأيديهم، لا يفرجون عنه إلا إذا اطمأنوا أن مناصبهم في مأمن، والاستفتاء المتضمن مقترحا بإلغائهم لن يمر، والأخطر من ذلك، والأكثر دلالة على أنانية "شيوخنا المحترمين" هو تعطيلهم لمصاليح الشعب، والوطن، عبر عرقلة المشاريع الحكومية حتى تتحقق مطالبهم التي هي شخصية في مجملها، فتعطيل المصلحة العام لصالح المصلحة الشخصية هو قمة الأنانية، حتى ولو مارسها الشيوخ، فالمشاريع في النهاية ليست للحكومة، بل هي للشعب، وتتعلق بتسيير شؤون البلد، في الاقتصاد، والأمن، والدبلوماسية، والثقافة...الخ.
أما شخصنة الشيوخ لأزمتهم فتتجلى في مطالبتهم بمعاقبة هذا الوزير أو ذاك، أو إصرارهم على معاملة "تفضيلية" لهذا الشيخ، أو ذاك، وأن يتوقف العمل التشريعي بأكمله من أجل الإفراج عن سيارة بدون تأمين تسببت في حادث سير قتل فيه أبرياء فذلك قمة الشخصنة، أو لا تكون.
إنه من المؤسف، بل والمخجل أن شعور أعضاء مجلس الشيوخ المحترمين بقرب نهايتهم السياسية جعلهم يعيشون حالة خوف هستيري، تجلت في ممارستهم لإرهاب فكري غير مقبول، حيث بات أي وزير يدافع عن برنامج حكومته، أو سياسة رئيس الجمهورية "مسيئا" يجب تأديبه، أو متطاولا على جناب الشيوخ الموقرين لا بد أن ينال عقابه العادل، مثل التلميذ المشاغب في فصل ابتدائي، وكأن الشيوخ باتوا هم المرجعية في كل شيء، يحددون المعايير، والقيم، ويضعون العقوبات المناسبة حسب مصالحهم الشخصية !!.
إن هجوم الشيوخ على بعض الوزراء، وشيطنتهم هجوم لا يستقيم، ومردود عليه لسبب بسيط هو أن الجمعية الوطنية تشهد غالبا سجالات تصل حد الشجار، والعراك بالأيدي، بين الوزراء، والنواب، ويتبادل الطرفان كل عبارات التجريح، والتكذيب، والقدح، ويتم بث ذلك عبر شاشات التلفاز، ولم نشهد يوما الجمعية الوطنية توقف العمل التشريعي، لتطالب بمعاقبة هذا الوزير أو ذاك، فلماذا هذه "الغيرة الزائفة"، أو الزائدة من الشيوخ على حرمة السلطة التشريعية، علما أن الشيوخ اشتهروا بالطاعة العمياء، والتصويت برفع الأيدي عموديا على كل ما تقدمه الحكومة حتى دون النظر فيه، وما قانون النوع عنا ببعيد، حيث مرره الشيوخ، ورفضته الجمعية الوطنية لاشتماله على مخالفات للشريعة الإسلامية تعهدت الحكومة بتصحيحها لم ينتبه لها السادة الشيوخ لأنها ببساطة لا تمس مصالحهم، وامتيازاتهم الشخصية، فعلى من يضحك الشيوخ ؟؟!.
إن اللجنة التي شكلها مجلس الشيوخ من بين أعضائه للتحقيق في بعض القطاعات الحكومية، والصفقات تدين مجلس الشيوخ قبل أن تدين الحكومة، وذلك لسبب بديهي يدركه الغبي، وهو أن الشيوخ صمتوا على هذه "التجاوزات"- على افتراض وجودها- على مدى سنين، واليوم قرروا نبشها عندما باتوا مهددين بالإلغاء، ضمن صراعهم من أجل البقاء، وهم بذلك يدينون أنفسهم بأنفسهم، ويفضحون سياستهم على رؤوس الأشهاد، ويقع الشيوخ هنا في تناقض صارخ، فهم من جهة أوقفوا التعاطي مع المشاريع التي تقدمها الحكومة، ورفضوا استقبال الوزراء، ومن جهة أخرى شكلوا لجنة للتحقيق في بعض القطاعات الحكومية، وهي مهمة تقتضي تعاون الحكومة لإنجاحها، وهنا أيضا نعيد السؤوالين البديهيين: لماذا لم يشارك نواب الجمعية الوطنية في هذه "الهبة" ضد الفساد، ولماذا اكتشف الشيوخ فجأة أن صفقة مطار أم التونسي شابها فساد، وهذا المطار بدأ إنجازه منذ سنوات، ودخل الخدمة فعليا منذ نحو سنتين ؟؟!!!.
وعلى كل حال فإن من حق الشيوخ، ومن صميم صلاحياتهم، بل ومن واجبهم أن يراقبوا العمل الحكومي، ويبينوا أوجه القصور، أو التقصير فيه، ويصححوا الخلل، ولكن من حق الشعب عموما، والصحافة خصوصا، وهي السلطة الرابعة أن تثير التساؤلات، وتعمق التحليلات في أداء الشيوخ، مثلما تفعل مع أداء الوزراء، والنواب، ورئيس الدولة، فالشيوخ يبقون في النهاية "شيوخا" وليسوا ملائكة، ولن نقبل أبدا بسياسة الترهيب التي يحاول الشيوخ إشهارها في وجه كل منتقد لأدائهم.
إن تعطيل مجلس الشيوخ للعمل التشريع، ووقفه التعاطي مع المشاريع التي تقدمها الحكومة يجعل السادة الشيوخ مطالبين بأن يرسلوا رسالة رسمية إلى وزارة المالية يطالبون فيها بوقف صرف مرتباتهم حتى يعودوا لممارسة مهامهم التي يستحقون بممارستها تلك المرتبات، والامتيازات الكبيرة، خاصة وأن الشيوخ هم من توقفوا عن العمل بمحض إرادتهم، وليس لسبب قاهر، أو بتدخل من السلطة التنفيذية، هكذا تقول أبجديات الشفافية، ومقتضيات النزاهة، وضرورات المحافظة على المال العام، وهي أهداف يملأ الشيوخ الدنيا اليوم ضجيجا بسببها!!!.
والغريب في الأمر أن الشيوخ وضعوا أنفسهم في أزمة مع الجميع، مع الشعب، ومع رئيس الجمهورية، ومع الحكومة، ومع القضاء، ومع أجهزة الأمن، بل ومع زملائهم في الجمعية الوطنية، لأن الشيوخ يهاجمون هذه الجهات كلها، ويخونوها، وإن بدرجات متفاوتة، حتى كأنه ما بقي في هذا البد مما يحسن السكوت عليه إلا "الشيوخ" !!.
وفي انتظار أن يضع الشيوخ حدا للحرب الوجودية التي بدؤوها من جانب واحد، أو يضع الشعب حدا للشيوخ أنفسهم، ستظل الغرفة العليا في البرلمان مجالا للمناكفات، والمزايدات، والتمترس خلف مصطلحات براقة، وشعارات نبيلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
كتبه مساء ليلة القدر ليلة 27 رمضان المبارك، من لا يخشى إرهاب الشيوخ، ولا تصنيفهم، فحريتنا في الرأي مكفولة، ولا سلطة، ولا مشيخة للشيوخ علينا.
بقلم: الأستاذ/ سعدبوه ولد الشيخ محمد