لعل السؤال الملح والمطروح أكثر من أي وقت مضي، يتمثل فى كيفية إنتاج مقاربة ثقافية وسياسية تعكس واقع البلد وماضيه، تناولا وبحثا وأسلوبا فى قراءة التراث وعلاقته بنا كمعاصرين، ثم استخدامه ساعتئذ فى المبتغى المراد. ولا يخفى أن ثمة أمرا مقلقا يجد كل المسوغات من أجل طرحه ومناقشته بحثا فى الثنائية " السياسية وعلاقتها بالثقافة فى هذا القطر ساعة التأسيس، من أجل اكتشاف نوعية القراءة الماضوية لتاريخ المنطقة المنطلق من مفهومين أساسيين:
البحث عن الأمجاد بمنطق القبيلة والأفراد ممن يملكون جاها أو نفوذا مهما كانت طبيعته متبوعا فى غالبه بسلطة رمزية، وفقها "يكتب" و "يؤلف" و "يكرم"، اضافة إلى "حذف" من تعالى صوته أو صار نشازا عن محيطه.
استيعاب اللحظة بدلالاتها المعرفية يدل على نوع من المرونة فى التعامل مع المستجد والطارئ، على أن الملاحظ سيلاحظ أن الكتابة فى مصائر الناس وتاريخهم وبنياتهم ستنطلق من هذا المبدأ فى وجود مراكز ثقافية ترعي تاريخية المجال ودوره "المتميز" تأليفا وإنتاجا، فالمسألة هنا لا ترتبط بمجال معين أو منطقة قد تكون لها مساهماتها المبدئية بغض النظر عن صدقيتها، غير أن ما يمكن التفطن إليه هو أنها ستربط بتاريخ مجالي أكبر ليصنع وفق معادلة أوسع وأشمل.
ليبدأ التركيب التأويلي من هذه اللحظة وفق التاريخ المحلي المنطلق من فكرة مرنة جدا وفقها يفهم ما ينتج ويبرر وفق القاعدة العامة بفقدان الكتابة الشاملة، لتشكل الأرضية بمميزاتها العامة مجالا خصبا لتقبل كل ما من شأنه أن يكون اسهاما فى الذاكرة الجمعية، بإيجاد مختلف الأعذار فى بيئته ومحيطه مادام لم يكتب شيئ ولم يؤلف وما وجد يتآكل فى صناديق تلتهمه الصحراء وسوء التدبير، لكأن الملاحظ بداهة يمكن أن يربط بين تاريخين أو فترتين دون كبير عناء خصوصا فى المبدأ والأسس المنطلق منها تجوزا كانت الكتابة الثقافية شحيحة ترتبط ارتباطا عضويا بسياقها فى غياب السلطة وانعدام الوسائل، غير أن المدرك هنا أن الكتابة المعاصرة ستنطلق من نفس المبدأ واجدة العذر فى انعدام الكتابة رغم وجود الدولة وانسيابية نظام الحكم.
ارتباط الثقافة بالسياسية و تعالقهما فى القطر الشنقيطي مسألة ضرورية من أجل فهم الظاهرة فى عمومها الدال على نهضة شاملة فى ثوب معين أدبي وتشريعي بالأساس ناصع غير أن الإشكال سيبقى مردافا لكل تأويل وتجديد.
إلا أن المقصد هنا هو دراسة الإشكاليات المعقدة التى ميزت المجال وجعلته استثناء فى نخبته ومعارفه لتصطدم بعوارض معينة، تمثلت فى قلة المؤلفات وانتعاش الثقافة الشفاهية.
لم تكن المعرفة فى هذا القطر تداولية بمعنى البحث عن المشترك والجامع لأبناء الأمة الواحدة، لتنبني فى أساسها على مفهوم الرغبة بطبيعته المنطلقة من إبراز الذات والدرجة العلمية، وليس الأمر يعاب أو منقصة فى مبدئه العام المؤسس لمفاخر القوم ودرجاتهم العلمية أو غيرهم ممن يملكون معارف أو مواهب على ضوئها يمنح الرقيب الاجتماعي الجاه والنفوذ والمراتب السامقة، بقدر ما كانت نتاجا للحال وافرازا له، إذ الأمر يفسره ضرورة إنتاجها فى سياق معين لا هو ينظر إلى المصلحة الوطنية فى ثوبها العام وفق الرؤى الاستراتيجية لبني هذا المجتمع ممن جمعهم الأصل والقربى، ولا نظر إلى الكتابة الشاملة للمجال برمته بل صار الحديث من باب تطبيق الجزء على الكل وليس العكس.
القول يقتضي النظر إلى أن كثيرا من الإشكاليات المعاشة قبل الدولة المعاصرة غاب عنه الظرف رغم كثرة المتون المصنفة فى الأعراف والعادات والتأسيس لكل ما من شأنه أن يساعد فى الظرف الاستثنائي المعاش، على أن ثمة اشكاليات كبيرة عولجت وبحث فيها أكثر من مبحث كانت خارج الموضوع أو خارج النص، بمعني آخر معرفة الأسباب معينة على التأويل من أجل المعادلة الثقافية السياسية، كان البحث فى الآداب السلطانية وكيفية ما يكون عليه الحاكم تصرفا ونظرا حائزا على عدد كبير من المتون الفقهية من باب الترف الفكري، ولعل من الطريف فى المسألة و المدعاة للتأمل فعلا أن هذه التصورات أعدمت أو تجاوزها الرقيب الثقافي حال وجود ما يمكن تسميته تجوزا بداية الدولة الحديثة المنضوي تحت لوائها الجميع بمبدأ العدالة والحق والمساواة، فى هذه اللحظة الفارغة تشكل الوعي بمنطق المصالح والمنافع والبحث فى اشكاليات من قبيل ملكية الأرض والقضايا الطارئة فى عمومها، و المسائل النقدية المستحدثة، ليبقي الإشكال الأبرز والأكبر غائبا عن المدونة الفقهية رغم تناوله فى الجانب الحزبي والنقابي.
مما يفهم من التحليل هنا أن التقاليد السلطوية كثقافة تشكلت من خلال المتون الفقهية لكنها ابتعدت كل البعد عن أي تنظير واقعي لنمط الدولة المعاصرة يخدم الصالح العام بل كان التنظير فى جانب والحال أو الظرف المعاش فى ثوب آخر بما يتناول وما يؤسس له ، لذا لم تكن الثقافة السياسة المعاشة خارج السياق، ولا كانت نتيجة أحوال معينة فرضها الواقع المحلي قبل تشكل هذا الفضاء الحديث بقدر ما كانت نتاجا لعقلية انتجها المجتمع وافرازا لها أيام المحن والأزمات، وما عداها من أيام تندر فى المخيلة الاجتماعية والثقافية عموما بالنظر إلى الأمور بطرائق المنقصة والدونية والبعد عن الديار المركزية بايحآت ثقافية ذات مغزى، ترافق معها احساس دائم بأن ثمة شئ ما غائب عن المعادلة التحليلية السلطوية فى تقاليدها وبنيتها، فهل هذا النقص والنظر بنظرة معينة يدرك من هذا المعني بداهة ويؤسس له؟. أم أن التحول فى المقاييس المتعامل بها تغير وفق منطق الدولة غير أن المعادلة بقيت على حالها.
تاريخ بحاجة إلى البحث من جديد وفق الأسس المعروفة منهجيا وأكاديميا، مؤرخ قبلي يكثر مع الأيام وتزداد الحاجة إليه، مثقف يبحث عن لقمة عيش ليجد المسوغ فى المجالس والموائد أيا كانت شاعر مجيد يتقن حرفة التخفي والبحث عن كل ما من شأنه أن ينضم إلى القائمة النخبوية.
المهم فى الأمر تشكلت الدولة المعاصرة بعيدا عن كل تنظير سياسي من هذه المدونة لا فى شكل الدولة ولا مميزاتها العامة، إلا ماكان من رؤى سياسية لممارسين للعمل السياسي رغم اسهاماتهم الجادة والتى لا مراء فيها فى بناء الدولة المعاصرة.
ليبقى الإشكال المعالج هنا يحتاج إلى كثير من الشرح والتحليل بعلاقة هذا التراث الثقافي الثر بالدولة فى ثوبها المعاصر، مما ينعكس ضرورة على التفكير بالشكل الحديث، الذي وفقه تشكلت مجموعة من القيم تأسس عليها الفهم والنظر متمثلا فى وجود ميثاق لبناء هذه الدولة الوطنية، لكن الاتفاق العام أو السير على هذا المنوال كان بعيدا كل البعد عن أي مرتجي سيتحقق على أرض الواقع.
فلم يكن النظر إليها سوى حدث عابر، متناسين أو تاركين تحليلا من قبيل أن شكل الدولة فرض فرضا أو كان منحة فرنسية بامتياز، مما قلل الايمان وجعله لا يصمد أمام أي عارض ولا حدث مهما كان بساطته، بل نبحث فى اشكال آخر أكثر قيمة حسب نظرنا ووجاهة فى التحليل البنيوي و السيسيولوجي فى فهم المجتمعات وتحولاتها العميقة من حال بادية وعصبية وأنماط معينة فى الفهم والسلوك إلى علاقة أخرى تنتج وتتفاعل فى النمط المعاصر الحداثي المعبر عن حاجات وفقها تسير ويبني المستقبل بطريقة الأمة الواحدة بدلالاته الاسلامية الجذابة والمراعية عرفا وشرعا، أو الشعب الواحد بفئاته و قومياته وتوجهاته.
المهم فى الأمر وما يراد من سابق الكلام أن المفهوم فى شكله لم يتغير كثيرا، فقد اعتمد القوم حال تشكل الدولة المعاصرة نمطا معينا لا يختلف عن سابقه، وهو ما قلل من التفاعل مع اللحظة النشاز لتشكل سياقا لوحدها يأخذ عاطفة وحين القول بسلبية المجال أو أشياء من هذا القبيل لتبرز الذات مدافعة ومنافحة حينا بحق أو بعدمه, إذ المقصد هنا هو أن لحظة التأسيس وبعدها بفترات من عمر الدولة المعاصرة لم يحصل فيه طارئ كبير رغم التغيرات الحاصلة في بلغة العيش، وفى التحول من نمط اقتصادي معين إلى آخر فرضه الزمن والجفاف ونضوب البلاد من جهة أخرى، على أن ثمة عاملان حسب نظرنا يحددان بشكل كبير فهم الدولة والمقاصد منها وهما يتفقان كثيرا مع ماض البلاد فى ظل غياب السلطان:
ـ الولاء الجغرافي والقبلي النابع من مصالح الفرد فى إطار المجموع لأبناء محيطه ممن جمعهم الولاء والعصبة، ذبا لمصالحهم ودفاعا عنها أمام النوائب والمستجدات، لذا ظل الدعم أو السند القبلي واجدا الأرضية الملائمة لتحركه ودعمه من قبل جماعة الحل والعقد ممن انطوى تحت لوائها الفقهاء و أهل الرأي.
ـ التأسيس الشرعي المنبثق من رؤية مفادها البحث عن المصالح والضرورات وهو ما يفسره ضرورة واقع البلاد وأحوالها التى انتجت معايير قبل الدولة الوطنية تعايش القوم وحصل التفاعل وفقها تسييرا وانتاجا، ليتم الانصهار بين المجموعات و الاثنيات بدءا من الجماعة المتؤسسة على الجمع فى حالته الاعتيادية، وهو ما يتجلى واقعيا من خلال التلاحم وبقاء اللحمة وأواصر القربي ـ رغم أننا فى مثل هذا التحليل لا نرمي الى انمحائها أو القفز عليها وعيا منا بدلالاتها الاسلامية الناصعة وألفة بين الأقربين ممن جمعهم الولاء أو العصبية، وإن كانت صياغتها تعاد وفق آليات جديدة وتبرز أكثر فى الفترة المعاصرة، وهو ما يطرح أكثر من سؤال على المختصين والدارسين بكيفية التغلب على النزعات والتوجهات بكتابة وصياغة جديدة للشأن الثقافي والسياسي تنبأك من أول لحظة ببروز الأنا القبلي فى تجلياته الناصعة، بمعني أن الدولة فى ثوبها المعاصر لم تستطع القفز على هذه المعايير لتضع محلها مفاهيم من قبيل الوطنية، حيث ينصهر الجميع حبا وذبا ودفاعا وخدمة للمجال المعني.
وهو أمر يبرره كثرة الاشكاليات المعاشة بتشعبها وتعقدها وتوارثها عبر الأجيال، وغياب الحل المؤسس على معايير غير الانتاجية السريعة والمصالح الذاتية المعدة على عجل، وهو ما قلل وسيقلل فى مستقبل الأيام من أي حل أو اسهاما فيه مادامت لم توضع المعايير الصحيحة الكفيلة بتغير المسار والسير على المنوال الصحيح.
ملاحظة: المقال مستوحى من مقال علمي محكم سيصدر فى هذه الأيام.