الإنسان هو ذلك الكائن المسئول الذي خلقه الله على أحسن مثال واختصه بأجل رسالة وجمع فيه خصال انفرد بها عما سواه من المخلوقات وأصل ذلك أن الإنسان منظومة متكاملة من القوى الروحية والمادية والعقلية تتفاعل سويا على القيام بالمهمة الإنسانية التي هيأها لها من إصلاح الحياة وعمارة الكون وعبادة الله في الأرض وهي مهمة ذات طبيعة مقدسة يتوقف عليها انتظام مسيرة حياته في الدنيا والجزاء الأوفى في الآخرة.
ولما كانت هذه المهمة تتطلب الصحة الجسدية والروحية إذ أنهما ملاك الذات الإنسانية تتم بهما الحياة ولا طغيان لأحدهما على حساب الآخر فلا يجوز في منطق القرآن أن يبخس للجسد حقا لتوفى حقوق الروح ولا يجوز أن يبخس للروح حقا ليوفى حقوق الجسد ولا يحمد منه الإسراف في مرضاة هذا ولا مرضاة ذاك.
انطلاقا من هذه الفلسفة تأتي أهمية الكتاب الذي بين أيدينا والذي قدمه لنا الدكتور محمد الشحات الجندي الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
أسبقية الإسلام
احتفى العالم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في ديسمبر 1948م على اعتبار أنه فتح جديد وأذان بميلاد تتخلص فيه البشرية من سطوة الظلم ونيران العبودية وطاغوت الاستبداد ومصادرة الآدمية التي واكبت مسيرة البشرية عبر الأزمان والقرون الخوالي ردحا طويلا من الزمن لم تنعم فيها بنسمات الحرية وإشراقات فجر العدالة إلا لماما كانت وميضا خافتا من أنوار التحرر والإبداع وتجسيد إنسانية الإنسان واستعادة ذاته وكرامته.
غير أن من المفارقات اللافتة للنظر في هذا الصدد الإعلان عن حقوق الإنسان باعتبارها محض إنجاز غربي أفرزته المدنية الغربية مسقطة من حسابها كل موروث ديني وحضاري أنجزه الإسلام في عصره الذهبي وقد كان حريا بالبشرية أن تحتفي بهذا الإعلان عن حقوق الإنسان وحق لها أن تفخر به وأن تمجده فكرا ووسيلة وغاية لولا أنها جرته من أساسه الصلب وسلبته فاعليته الأكيدة ألا وهو ما أحرزه الإسلام كنموذج للأديان السماوية سواء في مجال تكريس نصوصه لحق الإنسان في الحرية والعدالة والكرامة والعيش في سلام وأمان والتزام نظامه بإيجاد الآليات الموصلة لبلوغ هذه الحقوق ولإدراك هذه الغايات وتضافر كل من الفرد والسلطة في القيام على هذا الواجب كفريضة دينية وبرهان على الشرعية الإسلامية.
نماذج حقوقية
وإن سوق بعض النصوص في هذا المضمار ليفصح عن الاتجاه الإسلامي في هذا الخصوص.
قوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}.
وهو تعبير عن الدينونة بعبودية واحدة لله عز وجل من قبل الجميع الفرد والدولة والشعب والسلطة وما سواها من العلاقة فهي قائمة على الحرية مرتكزة على الحق والشرعية.
ففي قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} فإن توفير لقمة العيش وسيادة الأمن في المجتمع هو ما أدركه الإعلان العالمي بعد أربعة عشر قرنا من الزمان في تحرر الإنسان من الفزع والفاقة والحرمان وقوله جل شأنه: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}.
وهذا إيجاب على الأفراد وأولي الأمر من أهل الاختصاص من العلماء والسلطة الحاكمة أن تضطلع بمسئولياتها في رسم الآليات المحققة للأمن المزيلة لأسباب الخوف الضامنة لحماية الاستقرار في المجتمع وهو أمر لا يدرك إلا بتعاون الجميع على القيام به.
قوله سبحانه وتعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} والآية الكريمة نص ناصع في إقرار أثمن حرية يحرص عليها الإنسان ويبتغي تقديسها وهي حرية العقيدة التي حسمها الإسلام تجاه خالق الكون بمن فيه وما فيه وهي حرية لا يخولها المبدع لمن أبدعه فكيف له أن يمنحه حق اختيار من دونه وأن يجاهر بالكفر به والتمرد على صنعته ومنهجه ولكنه الإسلام الذي حسم حرية الاختيار وأبى إلا أن يأتي الإنسان طوعا وبكامل إرادته لله رب العالمين.
قوله جل شأنه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الاستقامة على كل ما هو عدل في ضمير كل مؤمن ومؤمنة واجتناب كل ما هو باطل وظلم مما تستقبحه فطرة المؤمن السوية ويستنكفه الضمير الحي وفي كلمة فإنه جماع كل فضيلة والتخلي عن كل رذيلة يتأذى بها الفرد والمجتمع ليتحقق صالح الفرد وجماعته وهذا الخاصية هي السمة البارزة في مجتمع الإسلام الحق تلك التي تستلزم بالرأي ونصرة الحق وإزالة الظلم والاستبداد والانتصار للفضيلة ومبادئ العدل والكرامة.