قد يكون مما لا يختلف فيه كثيرا أن لبلادنا من الأزمات ما لو وزع على أهل المعمورة لوسعهم فالأزمة السياسية في تصاعد، ومشاكل التعليم والصحة والصرف الصحي ويوميات المواطن الغني بأسباب الشقاء الفقير من سبل العيش الكريم ووجود حركات عنصرية متطرفة لم يعد بعضها يخفي الرغبة في تمام الانفصال أو شكلية الاتصال كلها تتضاعف في كل يوم وتجعل الحكومة في غنى عن خلق أزمة جديدة لا سيما إذا كانت أزمة ذات جذور حضارية ودينية كمسألة تحويل الإجازة من الجمعة إلى الأحد.
وقد تابعت كغيري من المهتمين ما أقره مجلس الوزراء في اجتماعه الخميس 11-09-2014 في ما يتعلق بمرسوم يحول الإجازة الأسبوعية من الجمعة إلى السبت وتابعت مسوغات هذه الخطوة التي تذكر بعهد لا يبشر تذكره بخير، مما يعني أن الحكومة ما تفتأ تقدم الشواهد يوما بعد يوم على أننا لا نعيش دولة القانون ولا ودولة العمل الإسلامي ولكن دولة مزاج الحاكم.
إن الناظر بموضوعية -فضلا عن عاطفة الانحياز إلى الثوابت الحميدة- لا يمكن أن يفوته أن المرسوم مخالف للقانون ومصادم للقيم الدينية وعامل خلق لأزمات اقتصادية، وسيدرك أن كل المسوغات التي قدم وزراء التسويغ هي حجج لا تغالب بيت العنكبوت إلا غلبها نسجا وإحكاما وجمالا.
أولا: فمن الناحية القانونية
جاء المرسوم مخالفا للقانون من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن مجال العطل داخل في إطار القواعد العامة المتعلقة بالقانون النقابى وقانون العمل والضمان الاجتماعي وفي إطار الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين وكذلك النظام العام للوظيفة العمومية.وهذان داخلان في مجال القانون بحكم المادة 57 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية فلا ينبغي تناولهما إلا من خلال قانون وهو في النهاية أمر متاح للنظام لأن برلمان اليوم لا يختلف كثيرا عن برلمان أمس الذي قال فيه أحد الشعراء:
رب إنا إليك نشكو النوابا ** يا مجيبا وشيخهم نجل بابا
لو أحل الرئيس فينا حلالا ** لأطاعوه جملة أو نصابا
وقد يتساءل المرء ما دامت الحكومة قادرة على سن قانون كما تشتهي فلم تتنكب هذا الطريق ولعل ذلك للأسباب التالية:
- أن الحكومة تنكبت سبيل المسطرة القانونية تفاديا للزوبعة التي قد يهيجها تدخل بعض برلمانيي المعارضة في مسألة بالغة الحساسية والقدسية لدى المواطن البسيط.
- لأنه لا توجد عمليا جهة قادرة على حماية دستورية القوانين والمراسيم.
- لأن ترسيخ مبدأ قدرة الحكومة على التشريع من خلال المراسيم مبدأ معتاد في الدول ذات الديمقراطيات المغشوشة.
الوجه الثاني: أن هذا المرسوم يعارض نص القانون 017 -2004 الصادر بتاريخ 06 یولیو 2004 المتضمن مدونة الشغل في منع تجاوز ساعات العمل اليومي 8 ساعات يوميا في غير المؤسسات الزراعية كما جاء في المادة 170(لا یجوز أن تزید المدة القانونیة للعمل في المؤسسات غیر الزراعیة عن أربعین ساعة في الأسبوع وعن ثماني ساعات في الیوم).
الوجه الثالث: أن هذا المرسوم يعارض نص القانون 017 -2004 الصادر بتاريخ 06 یولیو 2004 المتضمن مدونة الشغل والذي نص تسمية يوم الجمعة كيوم إجازة في نص المادة 174: (یحظر تشغیل نفس العامل أكثر من ستة أیام في الأسبوع. یجب أن لا تقل مدة الراحة الأسبوعیة عن أربع وعشرین متتالیة ویجب أن تمنح یوم الجمعة).
ومن هذا المنطلق فإن كل مواطن حريص على دولة القانون وسيادة القانون واحترام هرمية القانون وغيور على مبدأ فصل السلطات لا يمكن إلا أن يعارض هذا المرسوم لأنه ممارسة من ممارسات حكومات المزاج لا العقد الاجتماعي.
ثانيا: ومن الناحية الدينية
كانت المسوغات الشرعية متهافتة وهزيلة لا تسعف من يتعسفها التجربة ولا التعمق في فقه الواقع ولا التبحر في علوم الشريعة (لا تعني علوم الشريعة دروسا من مختصر خليل رغم أهميتها الكبيرة) وهكذا كانت المسوغات الشرعية أبرز المسوغات هشاشة وذلك تأسيسا على ما يلي:
1- أن القول بأن العمل يوم الجمعة مكروه في مذهب مالك بإطلاق قول مجانف للحقيقة العلمية التي سطرتها كتب المالكية فكراهة ترك العمل يوم الجمعة مشروطة باعتبار ذلك سنة ومضاهاة لليهود في تعظيم السبت والنصارى في تعظيم الأحد ولهذا ورد في المدونة ما نصه: قال مالك: (وبلغني أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون أن يترك الرجل العمل يوم الجمعة، كما تركت اليهود والنصارى العمل في السبت والأحد) (المدونة الكبرى ج1 ص234 دار الكتب العلمية بيروت لبنان الطبعة الأولى 1994) وذكر ذلك غير واحد من المالكية كالباجي في المنتقى شرح الموطأ فقال ما نصه (روى أشهب عن مالك في العتبية أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود للسبت والنصارى للأحد) ومعلوم أن ترك العمل على نحو ترك اليهود للعمل في السبت حسب معتقدهم يعني الإعراض عن الحياة وهو أمر مرفوض في الإسلام.
2- أما ترك العمل للتهيؤ للجمعة وغيرها من أعمال البر في هذا اليوم فقد أطبق كثير من شراح مختصر خليل على أنه حسن يثاب عليه ففي مواهب الجليل للحطاب عند قول خليل في المكروهات: (والعمل يومها) ما نصه: (أي يكره ترك العمل يوم الجمعة يريد إذا تركه تعظيما لليوم كما يفعل أهل الكتاب وأما ترك العمل للاستراحة فمباح قال صاحب الطراز وتركه للاشتغال بأمر الجمعة من دخول حمام وتنظيف ثياب وسعي إلى مسجد من بعد منزل فحسن يثاب عليه) (مواهب الجليل ج2 ص 548 دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بدون تاريخ نشر) ومثل هذا في شرح الخرشي على مختصر خليل عند المحل السابق ذكره من خليل في مكروهات الجمعة (والعمل يومها ) فقال: (أي يكره ترك العمل يوم الجمعة إذا تركه تعظيما كما يفعله أهل الكتاب لسبتهم وأحدهم وأما تركه للاستراحة فمباح وتركه للاشتغال بأمر الجمعة من تنظيف ونحوه فحسن يثاب عليه) وقال العدوي في حاشيته عليه: (لا يخفى أن كلام المصنف في ترك العمل وأما العمل منه ما هو مندوب وهو العمل في وظائف الجمعة واشتغاله بالتعلم في ما زاد على ما يعمل فيه وظائف الجمعة ومنه مكروه وهو العمل الذي يشغله عن وظائف الجمعة ومنه ما هو جائز وهو العمل الذي تركه جائز) (حاشية العدوي على شرح الخرشي مجموعان في طبعة واحدة هي الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية 1307 م1 ص 441).
فهذا الذي ذكر الوزير أنه اعتقاد العوام هو المسطور في أهم شرح مختصر خليل المالكي وأكثرها تحقيقا مع أن عبارة العوام ليست قدحا إلا عند من يجهل أصول الفقه إذ كل من ليس مجتهدا فهو عامي لا فرق بين الوزير وغيره في ذلك.
3- أن القول بأن الصحابة كانوا يعملون يوم الجمعة صحيح لكنه في هذا المحل تحريف للكلم عن مواضعه وإن شئت قلت إنه جهل عظيم لفقه الواقع أو تنكر له، فلم يكن في زمان الصحابة ولا في تاريخ الدولة الإسلامية قوانين محددة لأوقات الدوام بل كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا يعملون في الغالب متى شاءوا ويوقفون العمل متى شاءوا ولم تكن حدود التوقيت الصارمة اليوم معروفة فكان الناس يأتون من العمل ما لا يؤثر على دينهم.
أما اليوم فقد صارت القوانين تضبط كل شيء ولم يعد المرء سيد نفسه بل السيادة للقانون الذي يكفل حقوق الجميع ولا يمكن لمجادل أن يجادل في أن الموظف أمام هذا المرسوم سيكون بين خيارين أحلاهما مر:
- فإما أن يذهب إلى العمل الساعة الثامنة صبحا في الثياب المناسبة للعمل وينهي دوامه إلى الثانية عشرة زوالا ثم يقفل راجعا وحينها سيحين وقت الجمعة وهو ما يزال معلقا في أحد ملتقيات الطرق بسبب انسداد زحمة السير وإذا كتب له أن يأتي فسيأتي مرهق النفس منهك الجسم يسرنديه النعاس ويغرنديه فأين روح الجمعة في هذا؟
- وإما أن يطفف في وقته ويختلس ساعة أو ساعتين أو الساعات الأربعة وحينئذ يكون خان الأمانة وأدخل في عبادته دخنا.
فطبيعة العمل اليومي المعاصر تتنافى مع الشعائر ذات الطبيعة الدينية الخاصة ولهذا الاعتبار كانت الإجازة في الفكر التشريعي لكل أمة تراعي البعد الحضاري والديني لأن مراعاة ذلك مهم نفسيا واجتماعيا للعامل وهي مقاصد يراعيها المشرع، فتحدد الإجازة في أهم الأيام وأكثرها قداسة عند العامل، ولهذا يعتمد العالم المسيحي رغم علمانية الدولة فيه الإجازة يوم الأحد ويعتمد الكيان الصهيوني الإجازة يوم السبت ويعتمد العالم العربي العطلة يوم الجمعة مسبوقا بالخميس أو متبوعا بالسبت باستثناء دولتي المغرب وتونس اللتين ما زالتا محتفظتين بالإرث الاستعماري في هذا المجال.
4- أن التشبه بالنصارى واليهود أظهر في التعطيل بعطلتهم عند كل ذي عينين فإذا كان تعطيل الجمعة مضاهاة لليهود في سبتهم والنصارى في أحدهم مكروها فالحكم أجلى وأبين في تعطيل يوميهما مواطأة لهما.
ثالثا: ومن الناحية الاقتصادية
لم تكن المسوغات الاقتصادية أكثر أحكاما ولا إفحاما من المسوغات الدينية للاعتبارين أساسيين:
1- أن دولا في المنطقة والمشرق لا تصل حجم الصيرفة في بلادنا نسبة 5% من حجم الصيرفة عندها ويصل مستوى التبادل التجاري لديها مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 1000% من مستوى تبادل بلادنا معها وهي تعطل يوم الجمعة وبصورة أكثر تحديدا فقد ذكر المركز الوطني للإعلام الآلي والإحصاء الجزائري في تقرير له، أن قيمة صادرات الجزائري إلى بلدان الاتحاد الأوروبي بلغت 24.17 مليار دولار، وبنسبة 67.33 في المائة من إجمالي الصادرات.وأضاف التقرير أن قيمة الواردات من تلك الدول إلى الجزائر بلغت قيمتها 14.98 مليار دولار، وبنسبة 52.8 في المائة من إجمالي واردات الجزائر سنة 2013.
ويظهر تقرير يحمل عنوان (واقع وآفاق العلاقات الاقتصادية بين المملكة العربية السعودية ودول الاتحاد الأوروبي) أن حجم التبادل التجاري بين المملكة ودول الاتحاد الأوروبي بلغ 297.2 مليار ريال سعودي عام 2011م، مرتفعًا بنسبة 46.4% مقارنة بعام 2010م، و44.1% مقارنة بعام 2007م. فقد بلغت قيمة الصادرات السعودية إلى دول الاتحاد الأوروبي نحو 164 مليار ريال سعودي عام 2011م، مقابل 89.5 مليار ريال سعودي عام 2010م، ونحو 96.6 مليار ريال سعودي عام 2007م.. وتمثل قيمة صادرات المملكة إلى دول الاتحاد الأوروبي نحو 12% من إجمالي صادرات المملكة إلى دول العالم عام 2011م.. في المقابل بلغت قيمة الواردات السعودية من دول الاتحاد الأوروبي نحو 133.2 مليار ريال سعودي عام 2011م، مقابل 113.6 مليار ريال سعودي عام 2010م، ونحو 109.7 مليار ريال سعودي عام 2007م. إذ تمثل قيمة واردات المملكة من دول الاتحاد الأوروبي نحو 27% من إجمالي واردات المملكة من دول العالم عام 2011م (المرجع صحيفة المدينة الإلكترونية بتاريخ 22-10-2013).
ومن خلال هذه المعلومات يتبين أن تعطيل الجمعة ليس معوقا اقتصاديا.
2- أن الخسارة الاقتصادية المتوقعة فعلا هي تلك التي ستترتب على هذا القرار لأنه سيؤدي عمليا إلى نقص الإنتاج تبعا لأمرين:
- إرهاق العمال الشديد بالساعة التاسعة التي لن تكون ساعة منتجة ما لم تتخذ تدابير لتوفير إنفاقات إضافية وهو ما سيجعلها ساعة سيزيفية.
- ضياع الكثير من الساعات في العديد من المؤسسات وخاصة المؤسسات التعليمية والتأهيلية التي لا يمكن عمليا أن تتجاوز ساعات العمل بها 7 ساعات إلى 8 يوميا
وهكذا تبدو كل المسوغات واهية والحقيقة أن هذه الخطوة تكشف عن وجه علماني اجتثاثي للنظام ظل يحاول برقعته، اعتبارا لظروف داخلية وأخرى خارجية (ظروف الانقلاب ثم محاولة تأكيد الشرعية بعد الانتخابات 2009 ثم الربيع العربي).
لقد كان أول خرق في برقع النظام قرار إغلاق المعهد العالي ونظرا لشراسة المواجهة والظروف الدولية تم التراجع عن الخطوة وتمت محاولة رقع تلك الثغرة بخرجات إعلامية تلوث على البرقع عمامة يرتبط رفض علمانية الدولة بها، لكن الدولة الإسلامية العمامة لم تعاقب ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ومنحت تزكية الترشح لأعلى منصب لمن حرق كتب المذهب المالكي وألصقت تهمة تمزيق المصحف بمعزاة لينعدم بذلك القصد الجنائي.
ثم كان الخرق الأنجل إغلاق جمعية المستقبل في سنة عرفت موجة من الإساءة إلى المقدسات تنوعت ما بين إعلان الكفر إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم إلى إحراق المصحف، ويبدو أن عدم نيل تلك الخطوة ما تستحق من الاستنكار والرفض، عجل بإغراء النظام على الحسر عن وجهه الحقيقي الذي لا يقيم وزنا للشعائر ولا المشاعر، فقرر تحويل العطلة الأسبوعية من الجمعة، ومن الجلي أنها لن تكون خطوة يتيمة بل هي حبة جهنمية في نظام لم ترتبه يد صناع لكنه قد تكون جادة في صيانته، وقد يكون من جباته الجهنمية عودة العلاقات مع الكيان الصهيوني، ودخول مواجهة مع روافد الهوية وكل من يحتمي لها من القوى السياسية أو المدنية، والتأهب للقيام بالأدوار الوكالية حسب الطلب مقابل السكوت عن كل التجاوزات التي قد تطال الدستور في مادة يمين المأموريتين.