يدور، في موريتانيا، نقاش متعاظم حول قرار الحكومة "الجديدة" تغيير أيام العطلة الرسمية، لتصبح السبت والأحد، بدلاً عن الجمعة والسبت، وترتفع أصوات معارضة كثيرة للقرار، وتعتبره تغييراً يعتدي على رمزية يوم الجمعة، يوم عيد المسلمين، في حين أخرجت الحكومة وزيري الشؤون الإسلامية والوظيفة العمومية والشغل، ليردا على الحجج المنتقدة للقرار ويبررا "منافع" القرار وحجته.
فقد قال وزير الشؤون الإسلامية دفاعاً عن القرار، ورداً على دعوى انتهاكه حرمة الجمعة باعتبارها عيداً وعطلة جامعة للمسلمين، إن العمل يوم الجمعة "محبذٌ على عكس المعتقدات الشائعة لدى العوام". أما الوزير الآخر فقال إن العطلة الجديدة واستبدال الجمعة بالسبت فيها سيسمح بموافقة التوقيت العالمي، وبحسبه، فإن عدم مسايرة الأسواق العالمية يكبد موريتانيا خسائر مالية معتبرة.
ومن الجلي أن الاستغراق في ذلك النقاش بشأن رمزية يوم الجمعة دينيا ومدى مردود تغييرها عطلة على الاقتصاد، يطغى على جوانب أعمق وأكثر خطورة، فقرار الحكومة اعتماد يوم "سبتها" عطلة إلى جانب الأحد ليس جديداً، بقدر ما هو عودة إلى قرار أسبق، اتخذته حكومة الرئيس العقيد معاوية ولد الطايع، إبان علاقاتها مع الكيان الصهيوني، وسوغته بالتبريرات نفسها تقريبا، وهو ما يستدعي عند بعضهم ضرورة النظر إلى ذلك التشابه و"التناص" في حرفية القرارين ومضمونهما، بل ظروفهما السياسية، وهل قرار حكومة الرئيس الجنرال، محمد ولد عبد العزيز، وهي من أعادت من يسمون شعبياً رموز التطبيع إلى الواجهة، مثل وزير الخارجية الحالي الذي كان سفير حكومة ولد الطايع في تل أبيب، نوعاً من مغازلة ذلك الماضي التطبيعي مع الكيان الصهيوني، بغض النظر عن انفصال قرار العطلة شكلاً عن أي مقتضيات دبلوماسية ظاهرة؟
"هل ثمة نوع من الإحباط الشعبي العام من الشكل الديمقراطي الموريتاني الذي بدأ سنة 1992 وشهد انقلابين عسكريين ناجحين ومغيرين للسلطة "
يتخوف كثيرون، الآن، من عودة متدرجة لنظام العقيد في مأمورية الجنرال الانتخابية الثانية، وخصوصاً في شقيها المتمثلين في العلاقات مع إسرائيل، وما سمي، آنذاك، مكافحة الإرهاب، وفي إطارها، تم استهداف الإسلاميين بشكل منظم. أما مكمن الخشية الأهم والأكبر فهو أن نجاح حكومة ولد عبد العزيز في تمرير قرار عطلتها و"يوم سبتها" هذا، من دون مظاهر احتجاجية شعبية مؤثرة، يعني، بالضرورة، تراجع تلك الروح النضالية التي كانت قوية نسبياً في عهد ولد الطايع. فمن يستدعي من الذاكرة ذلك النشاط الفائق لمحاربة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وذلك الوقوف الشعبي العريض ضد قرارات ولد الطايع المستهدفة للأئمة وللعلماء، آنذاك، في إطار حرب نظامه على ما يسمى الإرهاب، ومن يتذكر الانتفاضة الشعبية ضد ارتفاع أسعار الخبز، والتي استمرت زهاء أسبوعين في عهد الرئيس العقيد ولد الطايع، ومن يتذكر النشاط الطلابي الحماسي والفعال في جامعة نواكشوط، في تسعينات القرن الماضي، والذي توج بإضراب امتد زهاء السنة هو إضراب سنة 1997.
من يتذكّر ذلك كله ويقارنه بما يجري حالياً في فترة الرئيس الجنرال الحالي، ولد عبد العزيز، حيث ينحصر النشاط المعارض، بشكل عام، في مسيرات متثاقلة نمطية، تنظمها منسقية أحزاب المعارضة كل حين وحين، لا بد أن يتساءل جاداً: هل ماتت جذوة الروح النضالية، الرافضة مما يعتبر ظلماً وتعدياً على المجتمع، وأعرافه وتقاليده وهويته وحقوقه؟ أو بشكل أعم: هل ثمة نوع من الإحباط الشعبي العام من الشكل الديمقراطي الموريتاني الذي بدأ سنة 1992 وشهد انقلابين عسكريين ناجحين ومغيرين للسلطة، وساهم في تطهيرهما وتحويلهما إلى حكم سياسي "منتخب" هو حكم الرئيس "الجنرال" محمد ولد عبد العزيز الحالي؟
هل أصبحت الممارسة الاحتجاجية لغالبية فئات المواطنين الموريتانيين غير كافية، لتغيير واقعٍ بات فيه الجنرالات، بمساعدة مثقفين كثيرين "خونة"، بحسب تعبير جوليان بيندا، يتحكمون في مستوى ردود الأفعال وحجمها تجاهه؟ ويظهرون كل من يخالفهم في طريقتهم لصناعة الواقع، كما يريدونه، إما معارضاً غير مسؤول، أو أنه دليل حي وشاخص على ضمانهم حرية التعبير والشكل الديمقراطي المطلوب. لقد نجح الجنرال ولد عبد العزيز في أن يصنع نموذجاً للديمقراطية، تتحول فيه حرية التعبير، وحرية الاحتجاج الفردي والفئوي، عند القصر الرئاسي، إلى متنفس مضمون لإزالة الاحتقان، وعدم تراكمه ليتحول إلى غضب جماعي فعال. ثم استطاع ذلك الجنرال أن يركز الضوء على تنمية الأشكال الديمقراطية، بعيداً عن جوهرها، وهو ما يفسر إنجازاتٍ من قبيل وجود موريتانيا "الحالية" في صدارة تصنيف الدول العربية الأكثر ضماناً لحرية التعبير، وهو، أيضاً، ما يفسر قرارات كإلغاء وزارة الإعلام في الحكومة الجديدة.
في العمق وفي الواقع اليومي، تقتل هذه الطريقة التي تسير بها الديمقراطية، في بعديها المفاهيمي والإجرائي، في موريتانيا، شيئاً فشيئاً، الرغبة والقدرة الاحتجاجية لدى غالبية الشعب، وتجعل النضالات صغيرةً ومحدودة جدا، وتسلم الناس إلى سباتٍ ذهنيٍ في يوم سبتهم، وفي غيره.