لا يماري غالبية الناس في موريتانيا في أن القتل، ولو باسم تطبيق الشريعة الإسلامية، مرفوض، إذا صدر عن أفرادٍ، لا يملكون السلطة المتفق على أنها الحكم، ولو أتت بانقلاب عسكري وتغلب بالقوة، ولا يعجز وعي آلاف البسطاء الأميين عن قبول ذلك، لطبيعة الأفكار التربوية المستهجنة للقتل وللعنف بشكل عام، والمتوارثة في المجتمع، على اختلاف أعراقه وتفاصيل ثقافته المحلية.
لكننا، اليوم، وفي دولة الجمهورية الإسلامية الموريتانية، مواجهون بسؤال مهم، وعلينا أن نفكر في إجابة له: ما مدى مسؤولية السلطة عن تنامي ظاهرة الالتحاق بمعسكرات الموت في شمال مالي، والتي يهيئ فيها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أو تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، آلاف الشباب الغض، لإعلان ما يرونه جهاداً ضد مجتمعاتهم وضد الوجود الغربي، الفرنسي الأميركي، في شمال مالي، وفي منطقة الساحل عموماً؟
قبل أربع سنوات، كتبت مقالاً عنوانه "دولتنا الصانعة للإرهاب"، وكانت ظرفيته في قوة تنظيم القاعدة، على الأقل، في موريتانيا. حاولت فيه أن أحلل ما يحظى به التنظيم في نفوس شبابنا المزدحم المترامي في أحياء عشوائية فقيرة وعقوله، كتبت: (من حينا، ومن المقاطعة التي يقع فيها، خرجت أخطر قيادات وعناصر تنظيم القاعدة في موريتانيا. التقي ولد يوسف، عبد الرحمن "مفتي" القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، سيدي ولد سيدينا، معروف ولد الهيبة، وولد شبرنو" منفذو عملية قتل السياح الفرنسيين في وسط البلاد"...، أحمد ولد الراظي، وغيرهم.
هنا تجد "القاعدة" أنصاراً كثيرين، ومناخاً ملائماً للازدهار. هنا، يتحول أسامة بن لادن إلى رمز يلبس، في اللاوعي، كل الانتظار الملهوف للمهدي الذي سيعيد إلى الأمة هيبتها وانتصاراتها الجليلة. ومع ذلك، تجد، هنا، أيضاً إدانة واضحة سريعة للعمليات الدموية التي قام بها مقاتلو القاعدة هنا في موريتانيا. كيف تستقيم المعادلة المستمرة؟ وكيف تفرز عند تناقضها واقعاً دموياً، يخلو من فسحة الأمل؟
"
ما زلنا نسمع، من حين إلى آخر، عن انضمام أحد أقارب المعتقلين من تنظيم القاعدة إلى معسكراتها في شمال مالي، على الرغم من أنه لم يكن يبدي أي انتماء مظهري للفكر السلفي عموماً.
"
يقف سكان الحي، صباح كل يوم، على قارعة شارع الأمل الطويل، يخترق الشارع الأسود الحي، ويقسمه إلى نصفين متماثلين تماماً في ميكانزمات الواقع المر، ثم يمضي الشارع في طريقه، متجاوزاً الحي والمقاطعة كلها، مخلفاً وراءه سكاناً فقراء، لا يملكون إلا أن يكرروا الوقوف على ناصية شارع الأمل.
الفقر، تسند إليه مراكز أبحاث المسؤولية عن إنتاج التطرف والإرهاب في أحياء تشبه حينا، لكننا، نحن الذين نعيش في جنبات هذا "الفقر المتهم"، نعرف جيداً أن أشياء أخرى كثيرة تشترك كلها في صناعة هذا "الشيء المسمى الإرهاب"، والذي يبدو، حتى الآن، بوجهين وصورتين، تماماً مثل الحرباء التي يصعب التعرف على شكلها المطلق والحقيقي.
عندما ينخرط شباب"الحي" في تنظيم "القاعدة"، تتغير حياتهم جذرياً. قبل ذلك، تراهم يلعبون الكرة في ملعب "الصويلة"، المفتوح على ناصية شارع الأمل، تبصرهم في انطلاقتهم وتحررهم من كل العادات والأعراف والتقاليد، ثم تبصرهم في تحررهم من الالتزام الديني، المرتبط في أذهانهم بسيطرة الآباء، ثم تبصرهم في ثورتهم "الصامتة الهاجرة" لواقع حياة الآباء وتحكمهم. تراهم يتخذون لأنفسهم مكاناً نائياً، يمارسون فيه نزواتهم ورغباتهم المكبوتة، ويصنعون فيه عالماً يتميز بالتفاعلية الكاملة مع كل ما يستحدث في المدينة كلها من "موضات سيئة وحسنة".
المسألة التي تستدعي البحث، هذه الآونة، تطل، وهي مصحوبة بفترة انحسار ظاهرية في قوة تنظيم القاعدة، خصوصاً بعد اعتقال أغلب القيادات الآنفة الذكر، وموت آخرين منهم، إما في السجن، وفي ظروف غامضة، أو في مواجهة مباشرة مع قوات الأمن. ومع ذلك، ما زلنا نسمع، من حين إلى آخر، عن انضمام أحد أقارب المعتقلين من تنظيم القاعدة إلى معسكراتها في شمال مالي، على الرغم من أنه لم يكن يبدي أي انتماء مظهري للفكر السلفي عموماً. وباتت مواقع للتواصل الاجتماعي تشهد تمجيداً علنيا لتنظيم داعش وعملياته الدموية في العراق وسورية، وبات المدافعون، أو المبررون لذلك الفكر القتالي، يتزايدون، على الرغم من أنه من المنطقي، بعد كل ما جرى لقياداتهم، أن يتناقصوا، ما يجعل السؤال وارداً: هل ما زالت السلطة الحاكمة، عندنا، لا تفهم، إلى حد الساعة، طبيعة وشكل تنامي تلك الأفكار المتطرفة في قلب الأحياء الفقيرة التي تشهد نمواً شبابياً كبيراً، أم أنها تفهم جيداً تلك العلاقة بين أسلوب الحياة الموجود في كانتونات الفقر تلك وتنامي أنصار القاعدة وداعش، لكنها، مع ذلك، تتجاهل الحل الاجتماعي الثقافي الناشر للعدالة والموزع للثروة الوطنية بشكل سليم، يستفيد منه آلاف الشباب، ويكفيهم هم الشعور بالغربة في مختلف أحياء موريتانيا التي يغلفها الفقر والظلم والتفاوت الثقافي المعرفي بين الأجيال؟
على كل حال، في وسع السلطة في موريتانيا أن تدفن رأسها في رمال الحل الأمني. لكن، عليها أن تتذكر أنها ستضطر ربما قريباً إلى مضاعفة الإنفاق على قوتها، لمواجهة الفكر العنيف، لأنها، ببساطة، لم تنفق كي لا يكون من الأساس.