خلال الأيام الماضية، حفلت الصحف والمواقع الإخبارية الموريتانية بسيل من ردود الفعل والتعليقات، التي جاء بعضها مبالغ فيه، ردا على تصريحات غير لائقة أطلقها معلق رياضي مغربي تجاه فريق رياضي موريتاني، ورأى الكثيرون أنها تجاوزت حدود اللياقة، بل وذهبوا أكثر من ذلك معتبرين أنها تأتي ضمن سلسلة من إشارات "الاستعلاء غير المبرر" التي ظل المغاربة يمارسونها تصريحا وتلميحا ضد جيرانهم الموريتانيين منذ مرحلة ما قبل قيام الدولة الموريتانية بشكلها الحالي..
وبالنظر إلى التصريحات الأخيرة والتداعيات التي أفرزتها، فإن ماجرى يعكس مستوى "الحساسيات" بين الشعبين المغربي والموريتاني، ويظهر مدى "صعوبة" العلاقة العصية على التصنيف، فمن جهة هناك تداخل جغرافي وعرقي وتطابق ديني معروف ومستقر منذ مئات السنين، أي حتى في الفترة التي كانت فيها موريتانيا مجرد قبائل ومشيخات تقليدية، ومن جهة أخرى هناك شك وريبة، فذاكرة الموريتانيين لا تريد أن تنسى أن المملكة المغربية ظلت حتى نهاية ستينيات القرن الماضي ترفض الاعتراف بموريتانيا وتنظر إليها كجزء لا يتجزء من الامبراطورية المغربية، وحتى بالرغم من أن المغرب اعترف رسميا باستقلال موريتانيا، إلا أن أدبيات الكثير من الأحزاب المغربية، و"الإنتلجنسيا" والنخب في المملكة مازالت تردد سرا وعلنا "موريطانيا ديالنا"، في تحد للواقع، وفي استخدام غير منصف لحجج تاريخية واهية تقول إن بعض القبائل الموريتانية بايعت سلاطين المغرب في مرحلة ما قبل تشكل الدولة، وأن هذا وحده كاف للتدليل على مغربية موريتانيا..
وبرغم غرائبية هذا المنطق وضعف حجيته، إلا أنه، وفي مفارقة عجيبة، قد يرتد على أصحابه، فبعض الموريتانيين يرون أن يوسف بن تاشفين الذي انطلق من الصحراء الموريتانية وأسس حواضر رئيسية في المملكة هو رجل موريتاني، وبالتالي فإن موريتانية المغرب أيضا يمكن أن تطرح للنقاش..
ولعل هذا الجدل التاريخي التعيس مشفوعا بذاكرة لا تريد أن تنسى مطالبات المغرب بموريتانيا، ومصحوبا بالتوترات والتشجنات الكثيرة التي طبعت علاقات البلدين حتى في مرحلة ما بعد الاعتراف المغربي، كلها أمور أفرزت نوعا من "الحذر" والتوتر والمشي على حبل مشدود في علاقات الجارين الشقيقين.
وبعيدا عن التاريخ وحساسياته، فإن الواقع أيضا يقول كلمات غير مشجعة في هذا الإطار، فعلى مدى أكثر من سنتين مازالت السفارة الموريتانية بدون سفير، ورغم جولاته المكوكية، إلا أن الرباط رغم أنها الأقرب جغرافيا، وحتى نفسيا واجتماعيا، للرئيس عزيز إلا أنه لما يزرها بشكل رسمي بعد، وبالمقابل فإن الملك محمد السادس زار أغلب دول الإقليم مرات عديدة دون زيارة نواكشوط، في مشهد لا يمكن أن يفسر سوى بأن وراء الأكمة ماورائها..
ولعل الحياد الإيجابي الذي تمارسه موريتانيا تجاه قضية الصحراء، والذي اتخذ أشكالا جديدة في السنوات الأخيرة مثل استقبال الرئيس عزيز لمسؤولين في البوليزاريو في غياب وزير الخارجية، وكذلك تقاطر النخب الصحراوية على نواكشوط، وفتح وسائل الإعلام أمامهم، بل ومشاركة شركات تابعة للبوليزاريو في معارض استثمارية موريتانية، كلها أمور رأت فيها الرباط خروجا على الخطوط الحمراء وتماديا في الاستفزاز..
ومما زاد الأمور تعقيد ا في العلاقات المغربية الموريتانية هو التقارب الملحوظ في السنوات الأخيرة بين نواكشوط والجزائر، والزيارات المكوكية المتبادلة، والتنسيق المستمر في قضايا الإرهاب، والذي غالبا ما يتم استبعاد المغرب منه، وفي هذا الإطار لا يمكن للمغرب أن يغفر لموريتانيا أنه في عهد رئاستها للاتحاد الإفريقي تم تعيين مندوب مكلف بقضية الصحراء الغربية، وهو ما اعتبرت الرباط أنه جاء بتمالىء مع الجزائريين..
إن عقد التاريخ وحساسيات الجغرافيا، وتقلبات الدبلوماسية يجب أن لا تغفل الحقيقة التي لا جدال فيها وهي أن موريتانيا والمغرب بلدين جارين بشعبين تجمعهما الكثير من العوامل المشتركة ويجب أن يتجاوزا كل المطبات التي من شأنها أن تعيق المسيرة نحو مزيد من التآخي والتكاتف.
*نقلا عن " أقلام"