خلل ديمقراطي / احمد سالم ولد عابدين

اثنين, 2014-06-09 14:39

في الثقافة التقليدية تعتبر الخيمة فضاء حرا، كل المواضيع مطروحة للنقاش و البحث.. كل الآراء يتم تداولها هناك، بيئة جيدة لبروز ديمقراطية جيدة .. الآراء المطروحة للنقاش تخضع لمنطق "انتخابي دارويني" يُبقِي منها ما ينفع الناس و يُلغِي الزبد منها جفاء..

المعيار الفوقي للصدق هو الذي حدد الصالح من الأفكار و الطالح، حيث يتجمع رجال لفريك عند خيمة" العنگرة" غالبا، حيث تُصْقَلُ النصوص الأدبية هناك و تَخلُق المديحيات العصماء رؤوس أموال اجتماعية لدى الممدوحين و رؤوس اموال اقتصادية لدى المادحين، حيث يتطلع الإعلامي الأول ( إيگيوْ ) بتأسيس أمجاد الجماعة، تعديلها، خلقها، تشذيبها، .. أما الوجه الآخر لتهيدين فهو إقصاء الآخر.. و بدون " اتهيدينة القبيلة" تبقى ظروف التأسيس الاجتماعية ناقصة..

الخيمة برمزيتها تتيح مجال " شد لخبار " في كل أمور الحياة، و هذا مؤشر ديمقراطي ممتاز.. انه مجال عام يكاد يقارن بالمجال العام الذي احتلت فيه الصالونات الأدبية مرتبة الصدارة في إطلاق الوعي الجماعي الأوربي بضرورة التعددية في مجال الأفكار و بالتالي بناء الفضاء. هابرماس، الفيلسوف الألماني الأشهر في الزمن الحاضر يرى أن تلك الصالونات أَطلَقت "العقل التواصلي" الذي ينبغي أن يحل محل "العقل الأداتي" لتنعم أوربا بتجسيد الديمقراطية..

لكن على الرغم من أن الفضاء المفتوح في الثقافة الموريتانية التقليدية ( الخيمة المَكشُوحَة، المُكَوْشْحَة ) يتيح إمكانية التعدد الديمقراطي، إلا أن لكل جماعة ( قبيلة ) أفكارها الخاصة التي لا تقبل النقاش حولها، تابوهات يُعَد مَسُّها احد عوامل جذب الشر.. لكل جماعة مخيالها الخاص المترع بالبطولات الحقيقية أو الوهمية و لا تقبل الجماعة أن يكون مُعرَّضاً للبحث أو النقاش ( لا احد يناقش أساطير الجماعة، يقول كلود ليفي شتراوس).. هذه هي الفكرة العامة للفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه الذي تفتقت موهبته في السجن، حيث يرى أن "العقل السياسي يجد جذره في الغيب" ..

هذا الغيب هو (  في موريتانيا ) أساطير الجماعة، مخيال القبيلة المشترك، أمجادها الأسطورية، و بعبارة أكثر بلاغة: لا وعيها السياسي..

هنا في دولتنا الحبيبة، قبيلتنا الأكبر.. نتربى في أسرنا و نتعلم عن طريق الشفاهة ( و الكتابة نادرا ) أن قبيلتنا خاضت معارك ضد القبيلة الفلانية و القبيلة الفلانية، دون أن تُهزَم قبيلتنا في أي معركة، و لا غرو فقد كان فيها الفارس الفلاني و لديها الحجاب الفلاني و عندها براءة نصر من الله القهار.. نتعلم كذلك من أسرنا أن الفلانيين هم أعدائنا التاريخيين و أن الفلانيين الآخرين هم حليفنا التاريخي و أن الفلانيين هم في الأصل أبناء عمومتنا و علينا أن نفضلهم على كل الآخرين..

التكوين السيكولوجي لأطفالنا يحفظ بهذه التعاليم في عقولهم اللاواعية .. هذا اللاوعي يؤثِّر على اغلب المواقف المستقبلية التي ستحكم سلوك هؤلاء، إلا إذا تم كبت هذه الانفعالات في صور أخرى ليس المقام هنا لتفصيلها..

عندما ننظر اليوم إلى ساحتنا السياسية، لن نتعب كثيرا قبل أن تتجلى لنا هذه الحقيقة.. حقيقة أن أحداث تاريخية جرت على هذه الأرض قبل مئات السنين ما زالت تؤثر على ديمقراطيتنا الوليدة.. بالطبع هناك استثناءات لكنها دائما الاستثناءات التي تؤكد القاعدة..

إن رهان ترسيخ الديمقراطية التداولية بدل الديمقراطية الصورية، هو تكثير هذه الحالات الاستثنائية، حتى ولو تطلب منا الأمر العمل على هندسة ديمقراطية حديثة تنطلق من تزوير تاريخ مشترك موحد لمختلف الجماعات و يتم تدريسه للأجيال الناشئة و يكون تكذيبا و دحضاً لما تلقوه من دروس تاريخية في البيت.. 8/6/2014