شكيب كاظم
بعد ان أصدرت الباحثة العراقية المغتربة فاطمة المحسن كتابها (تمثلات النهضة في ثقافة العراق) سنة ٢٠١٠، فإنها واصلت مشروعها المعرفي هذا، فأردفت كتابها ذاك بكتاب استقصائي وعلمي أطلقت عليه اسم (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق)، وقرأت أن كتابا آخر لها صدر عنوانه (أدب المنفى. دراسة في الأدبيات العراقية).
وإذا كان النتاج الجيد يفرض نفسه، فإن منجزا معرفيا مهما سيكون أكثر مدعاة لفرض نفسه، ودفع القارئ والباحث إلى معاودة القراءة والرجوع إليه، وكتاب (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق)، الذي أصدرت دار الجمل بالمانية طبعته الأولى سنة ٢٠١٥، الذي أغدقته علينا الباحثة فاطمة المحسن، يمثل صورة متقدمة لهذه المنجزات المعرفية، ومازلت أعيد النظر فيه والقراءة، فهو من الكتب التي تحتاج إلى قراءات،وليست قراءة واحدة.
لقد وقفت ثانية عند الفصل الرابع الذي وسمته الباحثة فاطمة المحسن ( الدرس التعليمي والمشروع الأكاديمي)ص٢٥٩ص٣١٣،درست فيه النهضة المعرفية والبحثية التي عاشها العراق في عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين،حيث دأبت الدولة العراقية على إرسال البعوث إلى دول العالم المتقدم،للدراسة في الجامعات العلمية الرصينة: السوربون وكمبردج واوكسفورد وهارفرد وغيرها، وعودة الخريجين مكتنزين بالمعرفة والمهارات، وأسبغوا ما حصلوا عليه من أسس علمية رصينة على الحياة الجامعية في العراق، ليظهر لنا جيل بل أجيال من المتعلمين الدارسين، الذين سيقودن الحياة الأكاديمية والمعرفية في العراق، واقفة الباحثة فاطمة المحسن عند مفهوم التاريخ والدرس الأكاديمي، متحدثة عن من درسوا تاريخ العراق القديم مثل: طه باقر ( توفي في ١٩٨٤) وفؤاد سفر (توفي بحادث سير في ١٠/ كانون الثاني/١٩٧٨)،وعبد العزيز الدوري (٢٠١٠) الذي درس التأثيرات الاقتصادية على سيرورة الحوادث التاريخية، وفيصل السامر (١٩٨٢) الذي درس ثورة الزنج في البصرة، فضلا عن جواد علي ( ١٩٨٧) الدارس في ألمانية، والذي ناقش قضية مهمة في الحياة الدينية في كتابه المهم ( المهدي وسفراؤه الأربعة) ويجب أن لا ننسى كتابه المعجمي المهم ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) واقفة عند جهود الباحث الكبير الدكتور صالح أحمد العلي ( ٢٠٠٣)، والذي تولى رئاسة المجمع العلمي العراقي في سبعينات القرن العشرين، الذي درس مدنا إسلامية: بغداد والكوفة والموصل والبصرة، غير ناسية جهود الدكتور علي الوردي (١٩٩٥) في علم الاجتماع، ومشيرة إلى مثابات مهمة في الدرس العلمي العراقي: الدكتور شاكر مصطفى سليم ( ١٩٨٤) مؤسس علم الانثربولوجيا في العراق بدراسته للهور والبطائح ولقرية الجبايش، ومنحته عنها جامعة لندن درجة دكتوراه فلسفة، وعالم الفيزياء والفلك د.عبد الجبار عبد الله ( ١٩٦٩) والباحث الاقتصادي الضليع د.محمد سلمان حسن (١٩٨٩) والدكتور متى العقراوي (١٩٨٢) عالم التربية، والذي كان له فضل تأسيس جامعة بغداد، ورئاستها، حتى إذا أديل به في تموز ١٩٥٨، ظل وجلا خائفا يترقب خشية على هذا الصرح العلمي الذي شاده، حتى إذا تولاها عبد الجبار عبد الله،ارتاحت نفسه وقرت عيناه، إذ تولى الجامعة من يأتمنه عليها.
ما أردت التعليق عليه والوقوف عنده، قول الباحثة فاطمة المحسن عن العلامة طه باقر: انقطع طه باقر عن الدراسات والبحوث والتعليم في العراق، أزيد من عقد ونصف العقد بعد إعتقاله سنة ١٩٦٣، وأصدر كتابه (من تراثنا القديم. ما يسمى في العربية بالدخيل) حيث يرجع أصول اللغات السامية إلى العربية (..) ولتعزيز هذه الفكرة يفرد بابا تحت عنوان ( اللغات العربية. أو ما يسمى باللغات السامية)وفيه يرى أن المستشرق ( شلوتزر.١٧٨١)،هو الذي استخدم تسمية الأقوام السامية، على الذين هاجروا من الجزيرة العربية باعتبارهم أبناء ( سام بن نوح)، كان على خطأ، لأن مصدره الأول ( التوراة)ليس مصدرا تاريخيا، لذا فإن فرضية ( الأقوام السامية) لا تستند إلى حقيقة تاريخية، أن هؤلاء الأقوام وأبرزهم الأكديون والكنعانيون والاموريون أو العاموريون والاراميون والعبرانيون والفينيقيون، الذين هاجروا من الجزيرة العربية بموجات مختلفة إلى أجزاء من الوطن العربي منذ ابعد العصور التاريخية، يصح أن نسميهم( الجزيريين) أو الأقوام العربية القديمة (..) الذي يعنينا من موقف طه باقر، هو التغير الذي حصل في إتجاه بوصلته، فقد كان في كل كتبه السابقة غير معني بهذه الفرضية، أو لم تظهر إشارات لها في مؤلفاته، بل يقول في غير موضع بخلافها (..) هذا التحول يعني الكثير في موقف باحث رصين مثله”.
اقول: حينما يعلو صوت السياسة والادلجة والرأي الواحد، المستند إلى سلطة مطلقة يخبو صوت العلم ويذوي، فلا يكون أمام الباحث الذي يحترم نفسه وعلمه، سوى الصمت والانسحاب إلى الظل،لكن حتى هذا الصمت يفسر في غير صالحه،وتظل الشكوك تحوم حوله، فلقد علا صوت المنابر والهتاف والسياسة على صوت الحقيقة والعلم،ترى هل أتاك حديث الغاء مصطلح ( الأدب الجاهلي) واستخدام مصطلح ( العرب قبل الإسلام)؟وهل غابت عن بالك مفاهيم إعادة كتابة التاريخ؟!
لقد وقفت موقف الشاك المرتاب، من هذا المصطلح الذي أذاعه المرحوم طه باقر، فضلا عن الدكتور أحمد سوسة، الذي نظّر لهذه الأقاويل، وكان كتابه (العرب واليهود في التاريخ. حقائق تاريخية تظهرها المكتشفات الاثارية) ميدانا لهذه الآراء.
إن هذه الانعطافة المؤسفة في فكر طه باقر، إنما جاءت نتيجة الخوف، ونظرية الأخ الأكبر الذي يحصي الحركات والسكنات، ولتؤكد هذه الانعطافة الخطيرة ضرورة الحرية في الكتابة والابتكار، ولكنا اكثر غبطة وفرحا بتوصلاته هذه لو كانت صادرة عن اقتناع أو إقناع، وسنناقشها وصولا إلى الحقيقة، ولقد سعدت وأنا أقرأ رأي العلامة الدكتور إبراهيم السامرائي (٢٠٠١) في كتابه العلمي المفيد ( من حديث أبي الندى.احاديث وحوار في الأدب واللغة والفن والتاريخ) قائلا: الحديث ذو شجون ومن شجون هذا الحديث، الكلام على الساميين واللغات السامية وتلكم سلسلة طويلة من هؤلاء الباحثين الذين خلطوا وافتأتوا فكانوا كما قال أبو تمام:
تخرصا وأحاديثا ملفقة– ليست بنبع إذا عدوا ولا غرب
وكل ذلك ما كان ليسمح لهؤلاء الأعلام العراقيين وغيرهم أن ينكروا الساميين، فيزعموا أنهم عرب أقدمون. فهذا المصطلح (السامية) على الرغم من اعتباطيته ونقصه وقلة وفائه علميا، لكن أفضل من مصطلح منطلق من هوى بغية نيل المكاسب المادية والمعنوية والقربى من ذوي الشأن وأصحاب السلطان”.
لذا فأنا أتفق مع قول الباحثة فاطمة المحسن إذ تقول: من بين كل زملائه في الدرس الجامعي، بقي علي الوردي مثقفا مستقل الرأي، سببت له ثورة الرابع عشر من تموز صدمة عاطفية ونفورا مضاعفا من أعمال العنف، حتى إنه امتنع بعدها عن الكتابة مدة خمس سنوات (..) فهو جريىء لا يخاف مجابهة الكثير من القيم الاجتماعية والمسلمات السياسية، فمن يجرؤ أن يقول إن ثورة العشرين كانت أقرب إلى هبة اعتادتها العشائر في غزواتها وحروبها المستمرة”.