أسّس أحمد ولد السالم منظمة "إنصاف" للدفاع عن فئة "لمعلمين" وحقوقهم المشروعة. لكنّ فئات غيرها ترزح تحت وطأة العنصريّة والتمييز في البلاد. فيترأس الهرم الاجتماعي في موريتانيا مجتمع "البيظان" المقسّم إلى القبائل العربيّة الأصيلة التي تولت قيادة الحروب وامتلكت السلطة، و"الزوايا" وهم أهل علم وورع.
وفي أسفل الهرم نجد أصحاب الحرف الذين يطلق عليهم لفظ "لمعلمين"، و"لعبيد" الذين يقومون بأعمال السخرة، و"إيكاون" وهم الذين احترفوا الغناء. - عندما أسّستم منظمة "إنصاف"، إلى ماذا كنتم تهدفون؟ تأسست منظمة "إنصاف" بهدف الدفاع عن المستضعفين والمهمّشين في موريتانيا.
لكن شريحة "لمعلمين" هي الأكثر استضعافاً وتهميشاً. وهو ما دفعني إلى وضع معاناتها على رأس اهتمامات المنظمة. - ما النتائج التي حققتها "إنصاف" في الدفاع عن حقوق "لمعلمين"؟ ساهمت المنظمة في تحسين صورة شريحة "لمعلمين"، ودفعت بقضيّتها إلى الواجهة.
فتناولها السياسيّون والكتاب والمحللون، وحظينا بلقاء كبار الشخصيات الفاعلة والبارزة في الساحة الوطنيّة.
ومن تلك الشخصيات رئيس الجمهوريّة (محمد ولد عبد العزيز) الذي استمع منا إلى شرح وافٍ عن معاناة هذه الشريحة وتطلعاتها. وقد تجاوب الرئيس معنا بشكل كبير، وتعهّد بإنصاف "لمعلمين". وترجَم ذلك بتعيين وزيرة (فاطمة فال بنت اصوينع) وسفير (محمد ولد مكحله) منهم بعد ذلك بفترة قصيرة.
- ما هي مآخذكم على المجتمع الموريتاني؟ المجتمع الموريتاني هو بالكامل مجتمع تقليدي في سلوكه وفي نظرة أهله إلى بعضهم بعضاً. فما من مجتمع موريتاني تقليدي وآخر حداثي في نظرته إلى الطبقات الاجتماعيّة. لذلك، نجد أنّ المثقف الموريتاني الذي درس في جامعة السوربون (فرنسا) أو كامبردج (بريطانيا)، أكثر وفاءً للتقاليد الموريتانيّة القائمة على الأسطورة والخرافة بالمقارنة مع الموريتاني البدوي غير المتعلم. ويتضح ذلك من خلال النخب التي حكمت البلاد. فهي تخرّجت من الغرب، لكنها حكمت بعقليّة بدويّة إقصائيّة، ولم تقم بأي شيء يصبّ في مصلحة الطبقات المسحوقة والمهمّشة.
- يتّهم البعض حراك "لمعلمين" بأنّه يشجّع المطالب الفئويّة ويُذكّي نار الفتنة ويسيء خارجياً لموريتانيا. ما ردّكم على ذلك؟ هذه المزاعم غير صحيحة على الإطلاق. نحن في منظمة "إنصاف" حدّدنا ومنذ اليوم الأول معالم طريقنا النضالي، القائم على عقلانيّة الطرح ووسطيّة الخطاب.
لقد وضعنا رهاناتنا بالكامل على الداخل، باعتبار أن قضيّتنا داخليّة. وإذا كان لا بدّ من اللجوء إلى الخارج، مع استبعادي لهذا الخيار، فلن يتمّ ذلك إلا بعد نفاد كل الخيارات المحليّة. - العرف الاجتماعي يمنع حتى المساندين لكم من تزويج بناتهم لأبناء هذه الشريحة؟ إن مجتمع "البيظان" (أعلى هرم المجتمع الموريتاني) هو من أكثر المجتمعات انغلاقاً، إلى حدّ ينذر بزواله. ومفهوم الكفاءة لدى هذا المجتمع، يعتريه كثير من الالتباس.
فحتى الكفاءة الدينيّة لا تعتبر شرطاً حاسماً في مسألة قبول الزوج. كذلك، ثمّة قبائل لا تقبل بالزواج من قبائل أخرى إلا في حدود ضيّقة، بسبب ادعاء كلّ واحدة منها الأفضليّة على الأخرى. وحتى داخل القبيلة الواحدة، تجد ثمّة نوعاً من الفرز لا يسمح بالمصاهرة بين أفخاذ القبيلة الواحدة، لاعتبارات غير مفهومة. و"لمعلمين" هم من ضحايا هذا الفرز الفئوي. - هل ترى أنّ تواطؤ الأنظمة المتعاقبة وصمت النخبة ساهم في تكريس وجود "لمعلمين" في أسفل الهرم الاجتماعي؟ بالتأكيد، لقد تظافر هذان العاملان لتكريس تهميش هذه الشريحة وإقصائها، ومن ثمّ الحكم عليها بالبقاء في أسفل الهرم الاجتماعي. وعلى الرغم من أن هذه الشريحة شكلت عبر تاريخ موريتانيا ثاني أكبر حاضنة للعلم والعلماء بعد شريحة "الزوايا"، إلا أن مثقفيها وعلمائها وشعرائها استبعدوا من تصدّر المشهد ومن تولّي أي منصب سياسي أو دبلوماسي أو تشريعي.
- هل يمكن أن تلجأ إلى حرق الكتب الدينيّة والتراثيّة التي تسيء إلى هذه الشريحة، كما فعل رئيس حركة "إيرا" المدافعة عن العبيد بيرام ولد إعبيدي؟ كلا. أنا لست من أنصار فكرة إحراق الكتب. فالفكر من وجهة نظري، لا يواجَه إلا بالفكر. صحيح أن ثمّة كتباً مسيئة ألّفها موريتانيّون وأسهمت بشكل كبير في تكريس النظرة الدونيّة لشريحة لمعلمين وغيرها من الشرائح المسحوقة الأخرى، إلا أنني لا أدعو إلى إحراقها، بل إلى إعادة النظر فيها لأنسنتها وجعلها أكثر تسامحاً وانسجاماً مع روح العصر.
- لماذا لا ترفعون قضايا ضدّ مضطهدي "لمعلمين" لفظياً أو عملياً، كما يفعل العبيد؟ بالنسبة إلينا في منظمة "إنصاف"، لا نذهب في هذا الاتجاه التصعيدي ولا نرغب في الدخول في خصومة مع المجتمع والدولة. كذلك لا نسعى إلى تجريم عبارة "أمعلم" أو "لمعلمين"، بل على العكس من ذلك نحن نسعى إلى تحويل هذه العبارة إلى مصدر اعتزاز ورمز للشهامة والخلق والإبداع. - كيف تقيّم دور منظمات المجتمع المدني في محاربة الإقصاء الاجتماعي؟ ما زال دور منظمات المجتمع المدني ضعيفاً، ويفتقر إلى الفعالية. كذلك، فإن عقليّة الإقصاء والاستئثار بكل شيء، متأصّلة في البلاد.
والحق إن لم يتمّ انتزاعه، لن يتبرّع أحد بانتزاعه من أجلك. فقد اكتشفنا بعد مضيّ أكثر من نصف قرن من الزمن، أن لا فائدة من الصمت وانتظار معجزة لن تأتي.
- هل ثمّة خطط للقضاء على العنصريّة والتمييز في الإعلام والمناهج الدراسيّة؟ نعمل على كل الجبهات في سبيل ذلك. فالإعلام يحمل رسالة مهمّة يجب أن يؤديّها بكل احترافيّة ومهنيّة لتوعية الناس وتثقيفهم، من خلال إعلاء قيم التسامح والمحبة والوحدة الوطنيّة. وفي ما يخصّ المناهج التربويّة، طالبنا بضرورة إعادة النظر في المناهج بغية مواءمتها مع الواقع.
وذلك من أجل أن تسهم في نشر ثقافة التسامح وتعزّز فرص تقوية الوحدة الوطنيّة، من خلال التنويه بإسهامات كل ألوان الطيف الاجتماعي في نشر تعاليم الإسلام وعمليّة بناء الدولة ومقاومة المستعمر الفرنسي.
- على الرغم من إقصاء أبناء "لمعلمين" من لوائح الترشح للانتخابات، تم تعيين وزيرة وسفير من هذه الشريحة. كيف تقيّم دور الحكومة في السنوات الأخيرة؟ في خلال استقبال الرئيس لنا مطلع العام الحالي، أعربت له صراحة عن أسفنا الشديد لإقصاء مكوّن بأكمله من لوائح جميع الأحزاب السياسيّة، على الرغم من وجود مناضلين أكفاء في كل الأحزاب وبخاصة في الحزب الحاكم. وعبّرنا أيضاً عن أسفنا لحرمان المرأة "لمعلمة" من الاستفادة من "كوتا" النساء.
وأعتقد أن تعيين وزيرة الثقافة التي حضرت معنا يومئذ الاجتماع تمّ بهدف معالجة هذا الخطأ غير المقبول. فلو أحصينا عدد الوزراء منذ الاستقلال لتجاوز عددهم 500 وزير، لم يكن من ضمنهم إلا وزير واحد من "لمعلمين". ولم يعيّن من هذه الشريحة على الرغم من ارتفاع نسبة المتعلمين في صفوفها، أي سفير قبل السفير الحالي الذي عيّن هذا العام.