الخيط الواهي بين إرهاب الفكر و فكر الإرهاب / الولي ولد سيدي هيبه

اثنين, 2014-12-01 13:58

هل من حرب أشد وقعا و أبلغ أثرا من التي يديرها الإرهابُ الفكري و إن في صمت السلاح فبمريب الخطاب و خطير المقاصد، ينخر العقول و يجرفها إلى مزالق يتحول معها الآدمي إلى شبه وحش كاسر لا تعرف الرحمةُ طريقا لها إلى عقله المغتصب حين ذاك

 و المجبول على غريزة الافتراس يلازمه الغل و الكراهية و الحسد و الرغبة الجامحة المدفوعة بالعمل الذي يأخذ مبلغ تشكله ثم تجسده في التعسف اللفظي و الفعل الجسدي الموُصلين بالنتيجة إلى تهميش و إقصاء الآخر و كسر شوكته أو بالأحرى - و بنية أسوء - إزالته حيث أنه لا يفصل عن تبني هذا المسلك الخشن سوى خيط هش من ادعاء حضور الوازع الديني أو العمل بمقتضيات القيم الإنسانية؟

و هل هذا الإرهاب الفكري الذي أتخذ منذ أمد - على أديم هذه البلاد - و في بعض أوجهه أشكالا و اتبع مناهج و اعتمد خلفيات و توجهات توزعت بين التأثير الحزبي و الحركي، إلا المؤدي بحتمية إفرازاته و نتائجه الموغلة في سياق كسر كل حواجز اللباقة و الكياسة و الرشد و التعقل إلى سد المنافذ أمام دوافع الحوار و مبررات التقارب و آليات التفاهم و مسوغاته و رغبة التقاسم و تبادل القبول أو الانصهار و التمازج أو التكامل و الوحدة و الوئام؟

و هل هو إلا الإرهاب الذي يستشري أيضا و يتمدد بسرعة مذهلة كالبرعم على أرضية خصبة تمده بأملاحها و بأشعة شمسها الملتهبة، إلا المولود من رحم العجز عن مسايرة معطى الحداثة و وجوب الطلاق النهائي من اعتبارات الماضي المخالفة لناموس التحضر و منطق العصر استجابة لضرورة قيام دولة القانون و المواطنة؟

و لا يخفى أن هذا الإرهاب الفكري الذي يصعد وتيرة تحديه للاستقرار و يهدد الوحدة الوطنية و يسعى في بعض أوجهه المتطرفة من كلا الوجهين الماضوي الظلامي و المتمرد الجامح أن يفتح باب الصدام بين فئات و مكونات الشعب الذي يفتقد إلى الأطر المُعِينَة على غرس قيم الجمهورية و حب السلم الاجتماعي و إرادة المساكنة التكاملية و قبول الآخر بما يمليه المعتقد المشترك، غائبا عن مساحة الفكر و التنظير لصالح خيار الديمقراطية و دولة القانون والمواطنة. وهو الغياب الذي يطرح جملة من التساؤلات المشروعة و الواردة والتي أقلها وليس أقلها أن يبقى التساؤل عن ما إذا كانت النخبة المثقفة السياسية و الفكرية موجودة حقا لتؤدي واجبها في مصاحبة قيام هذه الدولة، أم هل أنها تعاني فقط من نقص الحماس وخور العزائم سريع الاستقالة من وهن وضعف؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك فكيف لهذا الإرهاب اللفظي المتصاعد بين:

·        القوى السلبية، المقيدة في خطابها و عملها بسلبيات الماضي التراتبي و ممارساته الآثمة، التي لا تريد لبؤر النور أن تنفذ إليها و تقض مضاجعها وبين،

·        بعض قوى التمرد التي لا تسعى إلى تحقيق مطالبها عبر قنوات التعقل و النضال المتمدن و الإنصاف والحفاظ على الاستقرار، إذ لا يمنع كل ذلك مطلقا من تبني نهجا قوامه الحزم  مع الإصرار الذي لا مناص من أن يفضيا إلى الانتصار على قوى الجمود و إلى نيل الحقوق كاملة في كنف دولة الجميع و القانون.

أن لا يكون بكل ذلك هو الإرهاب الفكري الذي ينطوي بكل تجلياته على قدر كبير من المخاطر يعتبر معها الوجه المسلح  جزء فقط من تركيبته العامة و مقاصده الكثيرة المعقدة، الأمر الذي يجعل محاربته و مكافحة كل مشتقاته فرضا مستوجبا على الجميع حكومات و أحزاب و منظمات حقوقية و مجتمع مدني و تيارات فكرية و شعبية على مستوى القاعدة العريضة المستهدفة من كل هذه الأطر في سعيها الحثيث إلى صياغة ذاتها و فرض مكانتها و دورها في دائرة قيام و تسيير الكيان المشترك.

مساء يوم الأحد المنصرم نظم مرة أخرى مركز البحوث و الدراسات الإنسانية في ذات قاعة موريسانتر الكبيرة محاضرة قيمة خضرها جمهور نوعيي و استقت في اختيار موفق موضوعها من صلب انشغالات البلاد بواقع التحديات الجديدة الذي أصبح مرتبطا بشكل وثيق بالواقع الإقليمي من حولها بحكم الجوار و العربي بحكم الانتماء و الدولي بحكم العولمة التي ربطت العالم ببعضه البعض و جعلت قواسم الهم فيه و تداخل و تكامل المصالح ملزمة بتوحيد المواقف إزاء كل التطورات و بتضافر الجهود في وجه التحديات.

و ليس عنوان المحاضرة " الجماعات الجهادية في الساحل والصحراء من القاعدة إلى الدولة " و محاوره الأربعة التي اختيرت بعناية للإحاطة بما أمكن بالموضوع من كل الزوايا بدء بمعالجات الاختصاصيين كل من منظور علمي خاص و بعد تحليلي ممير إلى غاية وحدة الموضوع وصولا إلى استنتاج مخرج شامل يستجلي الصورة كاملة و يحرر من عقد الغموض بجمع القراءات المتباينة في حيز يقربها فيه التلاحق الفكري الإيجابي و التوافق المحمود على القواسم المشتركة، إلا إمعانا من المركز في تقديم مادة ترقى بالجمهور دون تمييز إلى حد ملامسة الفائدة في أقصى حدودها و أحسن تجلياتها. و تعاقبت على إنعاش محاور الندوة مجموعة من الباحثين الأكاديميين وفقهاء الدين و القانون والمختصين المرموقين في الإعلام و قضايا الحركات الجهادية عموما و في الساحل خصوصا. و قد وقف هؤلاء في محاضراتهم كل من محوره على:

·        تحديد مفهوم الجهاد شرعا و مدلولاته اصطلاحا،

·        و على تاريخ هذه الجماعات منذ النشأة إلى اليوم مرورا بما عرفت من توسع و تحولات و ما حققت من نجاحات و اخفاقات،

·        و على روافدها الأساسية،

·         ومفهوم الساحل والصحراء اصطلاحا،

·         و الجغرافيا السكانية و الثقافية و السياسية.

و ترأس فعاليات هذه الندوة الوزير السابق و السفير الأستاذ عابدين ولد الخير الذي استطاع أن يثير، بمداخلات قيمة أطرت و تخللت المحاور، جملة من التساؤلات دفعت بالنقاش إلى إمعان النظر مليا في بعض المفاهيم السابقة كمفهوم الدولة الذي بدأت تتبناه بعض هذه الحركات الجهادية بعد ما كانت تفضل عليه في حربها ضد "الدول" التي تتواجد على مساحات من أرضها، أسماء أقرب عندها و أنسب لمراميها العقائدية كالإ.

و لكن عبثا حاول المحاضرون و من بعدهم بعض المتدخلين - من السياسيين و المنضوين وراء تيارات حزبية و فكرية ضنت بالرؤية التبادلية و الحوارية المتفتحة على رؤى غيرها - أن يفصلوا ظاهرة الإرهاب عن واقع فقر شرائح الشعوب المتواجدة على الأطراف النائية لبلدانها و كأنها الجرب و المحصورة بين فكي رحى استئثار الطبقات المهيمنة في مراكز القرار من أصحاب النفوذ و رؤوس الأموال المشوبة الواقعين على التماس المباشر مع العالم النابض بالحياة و المفعم بالمصالح المادية و الثرورات التي لا تتجاوز الحواضر الكبرى من ناحية، و غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الفرص و ممارسة الغبن و البعد عن بؤر أنوار الحداثة و روافدها النفسية و المادية في دائرة الوطن بكل جهاته و أطرافه النائية تماما و هي الحالة في الصحراء الكبرى التي تتقاسم فضاءها الرحب و في أقاصي كل منها على الحدود مع الأخريات، دولُ محور تواجد الحركات الأصولية و الجهادية و الانفصالية و المتمردة على المركز و شبكات الاتجار بالممنوعات و الأسلحة و مطمع مكب النفايات عند الدول المتقدمة صناعيا.

و لكن الحقيقة التي لا تتطلب كبير بحث حتى تدرك هي أن فقر شعوب هذه الأطراف بغض النظر عن ألوانهم و أجناسهم و مذاهبهم المعتقدية و لغاتهم في الدول التي تعاني من سوء في الحكامة و مركزية في القرار و ضعف و غياب مزمن  للعدالة في شأن تسيير الثروات هي الأسباب الوجيهة التي مكنت مجتمعة من خلق حاضنة منيعة للتطرف و الإرهاب بكل أوجه  التأويلات التي يمكن أن يحمل إياهما من دينية و حضارية و فلسفية و موطن لا ينضب لاكتتاب و تجنيد عناصر مهيأة نفسيا للقيام بأعمال عنيفة.

و لكن يسقط المحاضرون مرة أخرى في شراك الأكاديمية و يستسلمون لدغدغة و سحر التنظير المترف بالألفاظ البديعة و بالمصطلحات العالمة، فأهدروا نصف قدرات مستمعيهم على متابعة النسق و استيعاب المقاصد و صَرفُوهم إلى التوغل في جزئيات الموضوع تارة و على أطراف تارة أخرى.

و معلوم أن الفكر المتشدد هو نتاج محاولة الإبقاء على قوالب ماضية مسها الصدأ عند البعض أو ردة فعل للانكسار و الاحباطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية و غياب العدالة في تقسيم الثروات و تقليد المناصب و غير ذلك من علامات الغبن التي تصنع الكراهية لتجعلها تتسلل من بعد إلي العقول فتخلق حالة من الرفض لواقع هذا الأمر الذي يولد هو الآخر منطقا و فكرا قابلين لأن يتطورا إلى إرهاب فكري.

و إذ الدولة أخذت على عاتقها مسؤولية محاربة الإرهاب المسلح الوافد و المتاخم فإنه لابد من فك الأغلال والقيود للتحرر من العقلية السائدة و العمل على سد الباب أمام الإرهاب الفكري و الاجتماعي القائم على أيدي و بعقول المتشبثين برواسب الماضي الإقطاعي و الطبقي السقيم من ناحية و على منوال ما بدأت عقول حائرة أخرى و لكنها جريئة تؤسس له و تنظر و تعمل من جهة أخرى بين فكي رحى مطبقة على الواقع الجديد، كما أنه لا بد أن تعلو الأصوات المستنيرة و المثقفة و أن يستعيد المجتمع بكل مكوناته كرامته وهـيبته و تطلق الحرية للفكر والإبداع والتجديد في حدود احترام الثوابت و الخصوصيات، علما بأنهم وحدهم صمام الأمان الوحيد و ضمان التغيير المطلوب من أسفل إلى أعلى وليس العكس لأنه ما دامت القاعدة تشكو من الاضطراب و الفساد فلن تجد القمة القوة المناسبة لتضطلع بمهامها في البناء و الإصلاح.

 

صحيح أنه لكل تغيير سلبياته ولكن لن تكون أبدا سلبياته في حجم الغيبوبة المدمرة التي إن ظلت قد لا يستفاق منها أبدا و يحل محلها مكر الإرهاب المتربص. و لا مناص كما أسلفنا أن يُعطى المثقفون الألمعيون و السياسيون الأكفاء و المنظرون بإنسانية في مجال حقوق المظلومين و المهمشين و كذلك المبدعون في تصميم الخطاب الهادف إلى الوحدة و اللحمة فرصتهم ليقدموا ما عندهم أمام الجدار الذي يسد أفق السلم و  العمل الوطني و يؤسس و ينظر بميزان علوم المهمة للخروج إلى أضواء العولمة حتى يثري و يستفيد.